التجارب التي مرت، علمت الفلسطينيين أن لا نصير لهم، عندما تدك غزة من الجو، ويشمل التدمير كل شيء فيها، دون أن يبادر أي طرف في الإقليم بدك المحتلين بمقلاع من حجارة.العرب عدلي صادق [نُشر في 2017/12/13، العدد: 10841، ص(8)] ارتفعت نبرة الإيرانيين ومواليهم، لكي تمتطي ردة الفعل الشعبية الفلسطينية على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجائر الذي يتجاوز كل الأعراف والقوانين، بخصوص القدس. ويُسمع الطنين العالي في هذه الأثناء، وكأنما هناك بالفعل جاهزية إيرانية لخوض الغمار. ذلك علما بأن التجارب التي مرت، علمت الفلسطينيين أن لا نصير لهم، عندما تُدكّ غزة من الجو، ويشمل التدمير كل شيء فيها، دون أن يبادر أي طرف في الإقليم بدك المحتلين بمقلاع من حجارة. كان الفلسطينيون ومازالوا يتمنون لو أن الطحين يتبع الجعجعة، وعندئذٍ يحق له أن يمتطي هدير الشعب الفلسطيني والشعوب المساندة لقضيته. فعلى هذا الصعيد، يرحب الفلسطينيون بتقدم فيلق القدس إلى ساحة الشرف، أو أن تُرمى على المحتلين صواريخ “حزب الله”، لكن الذي يحدث في كل مرة، أن جبهة غزة تظل هي المفتوحة، ويظل الصمت البليغ هو السائد على كل الجبهات. الآن تنهض الأسئلة من جديد: أليس الحراك الشعبي وثورة الناس بالحجارة، يبعثان بالرسائل المناسبة، للإدارة الأميركية وللاحتلال وللفضاء العربي برمته؟ وإن كانت هناك زيادة لمستزيد، فهل تزيدها الضفة وغزة، الواقعتان في داخل فضاء السيطرة الإستراتيجية للاحتلال، أم ينبغي أن يزيدها أصحاب الطنين؟ ولماذا لا يفعل المضروبون بالطيران في كل يوم، في قلب سوريا أو في قلب دمشق، ما يُطلب من غزة أن تفعله، على الرغم من امتلاك المضروبين، لأنساق نيران، وجيوش، وقذائف صاروخية، وأسلحة للبر والبحر والجو، وعمق استراتيجي وخطوط إمداد مفتوحة على مصادر التسليح؟ ففي استطاعة هؤلاء، رمي شيء على العدو الباغي، يستأنس به المقطوعون في غزة، عن أي خطوط للمساندة والإمداد؟ لا علاقة للأمر بالموقف السياسي أو بالرغبات، كما لا علاقة له بالحق في المقاومة من حيث المبدأ. فمن يختارون الحذر والتريث بينما هم طلقاء، لا يحق لهم حثّ المُكبلين على خوض حرب فورية، وأن يهاتفهم قاسم سليماني مرشدا وواعظا جهاديا. فقبل ساعة واحدة من الإعلان الشائن بلسان ترامب، كان التقييم العام لأحوال كل الأطراف في الإقليم، أنه بائس ومأزوم. فهل استطاع دونالد ترامب، الذي استحث عنفوان الجماهير، أن يستحث عنفوان السلاح؟ ولماذا لا يتوقف الإيرانيون أمام وقائع استطاعتهم، وأن يحاذروا لكي لا يُقال بعدئذ إنهم كانوا يكذبون، لا سيما وأن القدس محتلة منذ عشرات السنين، قبل تصريح ترامب، ولم يقترب من قضيتها ومن حدودها سليماني أو عمراني، مثلما اقترب الإيرانيون من الأضرحة والمقامات في سوريا، لكي يبرروا تأجيجهم للصراع الطائفي في الإقليم توخيا لمد نفوذهم والوصول إلى شاطئ المتوسط، لا إلى حدود القدس؟ إن لدى الفلسطينيين من التجارب وآلامها، ما يكفي لأن يكونوا على قناعة، بأنهم الوحيدون الآن، الذين يخوضون معركتهم دفاعا عن حقهم في وطنهم. أما الآخرون، فإنهم يخوضون معاركهم خارج أوطانهم ولهم في ذلك شتى المقاصد، وليست فلسطين من بينها. فمنهم من يريد الاستحواذ على اليمن، ولو بتغليب الأقلية على الأكثرية، ومنهم من خاض في العراق معركة مع مكوّن محدد، من شعب العراق، ومنهم من شن الحرب على شعبه، عقابا له على المطالبة بالحرية، ومنهم من يتذرع بالمقاومة لكي يسيطر على كل وطنه، وفي كل تلك السياقات، لم تكن فلسطين وجهة الخائضين! نتمنى أن نكون مخطئين، وأن يقدم سليماني الإيراني، الذي نصّب نفسه أستاذا في إدارة العمليات على العراقيين الموالين لإيران؛ برهانه على خطأ ما نقول. فالفلسطينيون ينامون ويقومون على أمنيات السلم الأهلي في أوطان العرب، لكي تستقيم الرؤى وتتبدى العقول كما الأوطان، في أتم عافيتها. أما الذين يفتحون جبهات الاستنزاف، في الإقليم، فلا يحق لهم توظيف العنوان الفلسطيني لتعلية شأنهم والتفوق الأدبي على الآخرين. فالكلام لا يُعلي شأن أحد، بل بالعكس هو يعزز البراهين على رداءة الخيارات وعلى زَيْف الخطاب، وعلى نزعات القهر والرغبة في فرض الاستبداد على الآخرين، وفرض وقائع ظالمة على الناس، تطيح بحقوقهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، مع سائر مواطنيهم! لا ينسى الفلسطينيون أن جزأهم اللاجئ إلى العراق، تعرض في الفترة من أواخر 2003 إلى 2012 لأعتى أنواع الظلم والإهانة وسفك الدماء، بعد إطاحة الأميركيين نظام حكم صدام حسين. فقد انقض أتباع سليماني عليهم دون تمييز، وأخذوهم بالجملة، ودفعوا بهم إلى الصحراء على الحدود بين العراق وسوريا، دون ذنب اقترفوه، فأُغلقت في وجوههم حدود الممانعة التي يزعمها النظام السوري. ومن استطاع منهم ابتياع جواز سفر عراقي والوصول به إلى دمشق؛ كان يحتجز أطفاله في مسكنه، لكي لا يكتشف المخبرون السوريون المنتشرون فلسطينيته من خلال لهجة أطفاله. وظل المعذبون في العراء لسنوات، تهاجمهم الوحوش البرية، وكثيرا ما قضت الأمهات الحوامل نحبهن، لأن الطريق بين الخيمة وأقرب مشفى للولادة يستغرق رحلة ساعات بالسيارة. كانوا يتصببون عرقا في خيامهم البالية صيفا، ويرتعشون من البرد فيها شتاء، دون أن يشفق عليهم أي طرف باستثناء حكومة تشيلي في أميركا الجنوبية، التي سمعت بمأساتهم فأرسلت تطلبهم للإيواء. فماذا تنتظر غزة من هؤلاء، في حال اختارت خوض معركتها بالنيران؟ لقد كانت أفاعيلهم ولا تزال، بعض نتاج انهيار الأوطان وتمزق وئامها الوطني. لذا فإن فلسطين لا تنتظر من القوى المتنفذة في الجوار، أكثر من استقرارها وعافيتها وتضميد جراحها، لكي تعود كما كانت، ولو في المستوى نفسه الذي كانت عليه في العام 1948. إن مقبرة الشهداء العراقيين في منطقة جنين، تشهد حتى الآن على وحدة العراق المفتقدة اليوم، لأنها تضم رفات الشهداء الميامين من كل الطوائف والأديان. دعونا من الكلام ذي الأمنيات القصوى، وليركز هؤلاء على الأمنيات البسيطة، لعلها تكون التوطئة المناسبة لبناء العنفوان الذي يجعل الطنين والجعجعة، فعلا واقعيا، وطحنا حقيقيا لاسترداد الحقوق في القدس وغيرها. كاتب وسياسي فلسطينيعدلي صادق
مشاركة :