"المعتمد بن عباد" لإبراهيم رمزي: طفل معجزة أم خطأ تاريخي لم يُصحح؟

  • 12/16/2017
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

في الوقــت الذي يؤكد الباحث اللبناني في تاريخ المسرح العربي الدكتور محمد يوسف نجم أن إبراهيم رمزي كتب مسرحيته الأولى «المعتمد بن عباد» عام 1892، ويسير علـــى هـــديه في هذا التحديد التاريخي معظم الباحثين والمؤرخين، يفيدنا هو نفسه من ناحية ثانية بأن رمزي من مواليد عام 1884، ما يعني أن ذلك الكاتب الفذّ أنجز كتابة المســـرحية التاريخية التي تعتبر مؤسسة في المسرح التاريخي العربي، وهو بعد في الثامنة من عمره. حتى موتسارت لم يفعل في الموسيقى شيئاً مشابها! فما هو حل هذا اللغز؟ لحد علــمنا لم يسعَ أحد إلى حله. كل ما في الأمر أن كُثُراً من المؤرخين اعتمدوا التاريخين معاً من دون أن يرفّ لأي منهم جفن. صحيح أن معظم الباحثين قالوا إن «المعتمد بن عباد» لا ترقى في مستواها أو في لغتها إلى أعمال أخرى لإبراهيم رمزي نفسه. لكن من هنا حتى الإقرار بأنه كتبها وهو في الثامنة، مسافة لا يمكن لأي عقل سليم أن يقطعها. ومع هذا سنتوقف عندها هنا بعض الشيء، ليس لدحض تلك «المسلّمة» التاريخية وليس للتأكيد عليها دون تمحيص، بل للإشارة إلى وجودها بأي حال، منذ العام الذي قيل إنها وجدت فيه، ولانتهاز الفرصة للحديث عمّن نُسبت إليه بوصفه واحداً من كبار الذين أسّسوا الكتابة المسرحية العربية، والتاريخية خصوصاً. مع الإشارة إلى أنه كان في الوقت ذاته من أبرع المترجمين العرب ومن أصفاهم لغة. وحسبنا للبرهنة على ذلك أن نقارن في الأجزاء الأربعة التي أصدرها المركز القومي للترجمة قبل فترة لمختارات من مسرحيات النرويجي هنريك إبسن، بين إنجاز نحو ثمانية مترجمين ضمّت المجموعة ترجماتهم، لنكتشف تفوق ترجمة إبراهيم رمزي لـ «عدو الشعب» على إنجاز زملائه، ومن بينهم أدباء مصريون كبار. > لكن ما نقوله عن تميّز ترجمة رمزي لا ينطبق بأي حال على مسرحيته المؤلفة التي نحن في صددها هنا، لا تماسكاً ولا لغة. فإن بقيت لها فضيلة، تظل هذه ماثلة في الريادة التاريخية التي يمكن أن تُعزى إلى «المعتمد بن عباد» لا أكثر. وهذا ما تؤكده لنا قراءة المسرحية، لكن يدعمه في الوقت ذاته محمد يوسف نجم الذي يقول إن «المؤلف تناول هنا طرفاً من تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس ومحورها حياة المعتمد بن عباد، التي تقوم هنا على ثلاث حوادث رئيسة، أوّلها ما كان بين المعتمد ووزيره الشاعر أبي بكر بن عمار من صداقة وثيقة انقلبت فيما بعد إلى عداء صريح أدى بالمعتمد إلى قتل وزيره وصديقه. والثانية هي غزوة ألفونسو السادس (الأذفونش) إشبيلية واستنجاد ملوك الطوائف بالمرابطين. أما الحادثة الثالثة فتدور من «حول أمر الجيش الذي أنقذ الطوائف ثم «بطر وشمخ قادته بأنوفهم عزة واستكباراً فكانوا الآفة التي نخرت عرش المعتمد...». ويقول نجم إن الكاتب «حرص على التقيد بحوادث التاريخ كما تقدمها له المصادر يرويها بإيجاز وسرعة دون أن يبيح لخياله أن يجول في ميدان الابتكار وأن يقرأ ما بين السطور فيبعث الشخصيات حية تتحدث بنعمة الحياة». > ويقول لنا نجم هنا إن هذه المسرحية كانت «البذرة الأولى للمؤلف في حقل التأليف المسرحي»، لكن كما أشرنا، لا يبدي في المقابل أي استغراب لأن يكون من يتحدث عنه هنا مجرد طفل في الثامنة. ومع هذا، فإن دخول إبراهيم رمزي حقل التأليف والترجمة للمسرح، كما حقل التمثيل- بين الحين والآخر- جعلا كثراً من الباحثين يتساءلون عن ذلك السحر الغامض الذي كان يجعل من فن المسرح هوس الشباب المصري المتحدر من أسر ميسورة ترسل أبناءها إلى الخارج لينالوا أعلى المستويات العلمية، فإذا بهم يقعون في هوى فن الخشبة ويعودون إما كتّاب مسرح وممثلين فقط، أو مختصين في المجالات التي أرسلوا لدراستها، لكنهم في الوقت ذاته يبدون منشغلين بالفن الجديد يعيشونه ويمارسونه على رغم أنف أهلهم الغاضبين؟ هذه الحكاية التي تنطبق على توفيق الحكيم، تنطبق على غيره أيضاً من أولئك الذين صنعوا خلال الثلث الأول من القرن العشرين أسطورة أولاد العائلات المنخرطين في «فن الحثالة»، ومن هؤلاء عبدالرحمن رشدي وإبراهيم رمزي الذي نحن في صدده هنا. > ولكن لئن كان توفيق الحكيم قد عاش حياته كما شاء، وأعلن في آخر أيامه أنه غير نادم على احترافه فناً ساعده ليصبح أحد كبار أعمدة الفكر في العالم العربي، ناقداً ومفكراً وروائياً وكاتباً مسرحياً يوصف بـ «المؤسس الفعلي» لفن الكتابة المسرحية العربية، ولئن كان عبدالرحمن رشدي قد ظل فخوراً طوال عمره بانتقاله من المحاماة إلى المسرح وتألقه فيه، فإن ابراهيم رمزي عاش أيامه الأخيرة، كما يبدو، حزيناً نادماً شاكياً من جحود أهل المسرح له، هو الذي كان من المؤسسين تأليفاً وترجمة، ولا يكاد يخلو تأريخ للمسرح المصري أو العربي من ذكره. > اليوم يكاد يكون إبراهيم رمزي منسياً بعد مرور نحو نصف قرن على رحيله، وفي وقت يبدو معظم ما كتبه، ومعظم ما كتبه رفاقه من أبناء جيله، خارج «الموضة» ولا علاقة له بما تحقق لفن المسرح من تقدم. لكن في تلك الأزمان، خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان إبراهيم رمزي ملء السمع والبصر، فلا يمضي موسم إلا وتقدم فيه واحدة من مسرحياته المؤلفة أو المترجمة. > ولد إبراهيـــم رمـــزي في مدينة المنصورة في 1884 وتلقى دراسته الثانوية في مصر، كما أن ظروفاً معينة جعلـته يتجه فتياً إلى دمشق حيث تلقى جزءاً من دراسته الثانوية. وفي 1907 توجه إلى لندن لـدراسة الطب. حتى ذلك الحين لم تكن لإبراهيم رمزي علاقة حقيقية بالمسرح، إلا من موقع المتفرج، وإن كان سيروي هو لاحقاً أنه أُغرم باكراً بالمسرح، لكنه كتم غرامه في قلبه لإدراكه أنه كان من المستحيل عليه أن يعبر عملياً عن ذلك الحب، وسط بيئة تركية الأصل مرفهة تنظر إلى جميع أنواع الفنون باعتبارها «نشاط رعاع لا أكثر». ومع هذا فحبه للمسرح وارتباط اسمه به حملا البعض على المبالغة والقول إنه كتب «المعتمد بن عباد» في 1892. وعلى أي حال، فإنه لم يخض الأمر جدياً إلا عام 1908 حين كان في لندن، حيث قُيّض له أن يقرأ مسرحية «قيصر وكليوباترا» التي أُصدرت في ذلك الحين من تأليف برنارد شو، فأُغرم بها «لما فيها من براعة في الحوار، وسخرية مبطنة تدور حول حياة الإنكليز واحتلالهم لمصر، ورأى أن يترجمها ويقدمها لصديقه جورج أبيض ليخرجها بوسائله الفنية الحديثة»، وفق ما يذكر محمد يوسف نجم. والحقيقة أن ترجمة إبراهيم رمزي للمسرحية لم تكن أمينة، بل إن المترجم أضاف إلى الحوار عبارات عديدة، تعبر عن آرائه هو في الوطنية والمال وغير ذلك، وكان هذا التدخل التمهيد الحقيقي لكتابته المسرحية في شكل احترافي وحقيقي مع عودته من لندن. فبدلاً من أن يدرس الطب اتجه في نهاية الأمر إلى دراسة علمَي النفس والاجتماع. ولذلك فحين عاد إلى مصر، لم يفتح لنفسه عيادة طبية كما كان أهله يريدون، بل عُيّن مترجماً بوزارة الزراعة، وهي وظيفة مكّنته من أن يتابع هوايته المسرحية، فبدأ يترجم ويؤلف بمعدل لا يقل عن مسرحية في العام. وهذا ما جعل له في كل موسم عملاً، فكان من أبرز مسرحياته المؤلفة «باب القمر» و «البدوية» التي وضعها خصيصاً لفرقة جورج أبيض، و «بنت الإخشيد» و «الحاكم بأمر الله» و «دخول الحمام مش زي خروجه» و «عزة بنت الخليفة» و «أبطال المنصورة» و «إسماعيل الفاتح» و «بنت اليوم». أما في مجال الترجمة، فاستهوته خصوصاً أعمال برنارد شو وشكسبير، مثل «ترويض النمرة»، كما ترجم عن إبسن «عدو الشعب» وترجم «شمشوم ودليلة» و «ريشيليو» و «القائد المصري» وغيرها. > وكان إبراهيم رمزي لا يتوانى، في بعض الأحيان، عن لعب دور ثانوي أو أساسي في بعض المسرحيات، ما جعل جزءاً كبيراً من حياته يرتبط بفن المسرح. لكن خيبة أمله خلال العقدين الأخيرين من حياته جعلته يتقلب في وظائف حكومية متعددة، كما اشتغل في الصحافة، ثم انتهى به الأمر بعد أن تجاوزت فنون المسرح أساليبه التاريخية الكلاسيكية إلى اعتزال ذلك كله. وهكذا بقي حتى يوم رحيله في شهر آذار (مارس) 1949.   alariss@alhayat.com

مشاركة :