غبي أو جاهل أو يتجاهل عن قصد، من يتساءل عن آفاق الحراك الشعبي الفلسطيني، الذي انفجر احتجاجا على، وتحديا، القرار الأمريكي بشأن القدس. التساؤل يصدر عن بعض الصحفيين والمراقبين العرب، وأكثر المتسائلين هم وسائل الإعلام الأجنبية. الدوافع هي الأخرى لا تنفصل عن حالة خوف، وربما إحباط من قبل العرب، أما عن الأجانب فهي إما متأثرة بالخطاب الإعلامي الإسرائيلي، الذي يركز على تدني مستوى الاحتجاجات، وإمكانية استيعابها، أو أنهم يستطلعون آفاق المواجهات الجارية في مختلف ساحات الوطن الفلسطيني وخارجه. التساؤلات تحاول الوقوف على أبعاد الجاري، وما إذا كانت مجرد احتجاجات وقتية موجهة وفق مستوى من الانضباط، أم أن ما يجري هو مقدمات لانتفاضة شعبية مستمرة، ومفتوحة على مختلف الاتجاهات. في الحقيقة فإن مرجع هذه التساؤلات، يعود لتقييم غير موضوعي لطبيعة وأبعاد القرار الأمريكي، الذي ينطوي على خطورة استراتيجية، غير أن البعض قد يتساءل من باب نقص الثقة في مدى صلابة وحزم الموقف السياسي الرسمي. تبدو لي هذه التساؤلات وكأنها سباحة في مياه ضحلة، لا ترتكز إلى تحليل عميق علمي وموضوعي، لما يعنيه القرار الأمريكي. ومثل هؤلاء أيضا، الحالمون بأن ثمة إمكانية لأن تتراجع الإدارة الأمريكية عن قرارها، تحت ضغط الإجماع الدولي، أو لأن إدارة ترامب فوجئت بردود الفعل، ولم تكن تتوقع بأن قرارها قد يؤدي إلى إقفال الطريق على الدور الاحتكاري الأمريكي، لإدارة ملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي. من حيث المبدأ لا تخشى الولايات المتحدة من عزلة دولية، فعلى الرغم من اعتراض حتى حلفاءها الأوروبيين على القرار، إلا أن ما يجمع أمريكا مع معظم دول العالم، بعيد كل البعد عن اعتبار القضية الفلسطينية هي من يحدد طبيعة العلاقات والمصالح بين الدول. بعد ذلك فإن القرار بشأن القدس على خطورته ليس قرارا مزاجيا أو ذاتيا يصدر عن رئيس متهور، فالولايات المتحدة دولة مؤسسات، والإدارة اليهودية المتطرفة المحيطة به، هي مؤسسة ومستشاروها وخبراؤها أمضوا عاما كاملا وهم يتنقلون في أزقة المنطقة العربية، تحضيرا للوعد الذي قطعه ترامب على نفسه، بأنه القادر على حل هذا الملف المعقد، بخلاف ما فشل في تحقيقه أسلافه. وفي الحقيقة أيضا فإن الادارة الأمريكية تعبر عن استهانة بقدرات الفلسطينيين والعرب، وتنطلق من اعتقاد مؤسس إسرائيليا، بأن ظروف المنطقة التي تضج بالصراعات من كل نوع وبالانقسامات والمخاوف، تسمح لإسرائيل بأن تحقق مصالحها ومصالح راعيتها وشريكتها الولايات المتحدة بدون أن تضطر لدفع أي ثمن. قد لا تشعر الولايات المتحدة بأي ضرر أو خطر حتى لو أن طريق البحث عن السلام من خلال المفاوضات قد تم إغلاقه، خصوصا في ظل غياب أي طرف بديل قادر على إحياء وإدارة ملف السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وفق حسابات إسرائيلية، تقول بأن العرب قد لا يستمروا في ربط تطبيع علاقاتهم بإسرائيل بالقضية الفلسطينية، وأمامهم تجربة مملكة البحرين مثلا. قد يكون كل ذلك مجرد أوهام أو حسابات خاطئة، أو ربما ينطوي ذلك على بعض الحقيقة، لكن كل ذلك وفي كل الأحوال من المستحيل أن يؤدي إلى ضعف حالة الاشتباك، أو تراجع الفلسطينيين عن حقوقهم. ما ينبغي على الولايات المتحدة أن تعرفه، هو أنها بحساباتها وقراراتها، وآخرها قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، تكون قد اختصرت الزمن الذي ضاع منه الكثير، قبل أن تجاهر بشراكتها الشاملة والكاملة مع إسرائيل، وأنها بذلك قد دفعت بالصراع، من صراع على حدود الرابع من حزيران 1967، إلى صراع على كل الأرض وكل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. لا يغير من هذه الحقيقة التي أدعي علميتها وموضوعيتها، أي محاولات أمريكية مراوغة للتضليل عبر تحسينات لفظية لقرارها القبيح، أو أي محاولات من أطراف أخرى دولية توهم الفلسطينيين بأن طريق السلام لا يزال مفتوحا على إمكانية تحقيق رؤية الدولتين، على الرغم من كثرة المطبات وصعوبتها. في راهن الظروف قد لا يبدو أن الفلسطينيين يملكون القدرة على إيذاء المصالح الأمريكية، التي لا تعرف إلا لغة المصالح الأنانية، لكن الصراع مفتوح على كل الحقوق وكل أشكال النضال، ومفتوح على الزمن، ومفتوح على متغيرات دولية وإقليمية وعربية من غير الممكن إلا أن تكون لصالح أصحاب الحقوق التاريخية والمتمسكين بالقانون والعدل. إذا كان الشعب الفلسطيني حقيقة ساطعة تحت الشمس، فإن الحقيقة التي تقابلها هي أن إسرائيل تتجه يوما بعد الآخر وسريعا، نحو أن تعرف نفسها على أنها دولة وظيفية ومشروع استعماري، سيتحول إلى عبء على صانعيه، بدلاً من أن يكون ذخرًا استراتيجيًا لهم.
مشاركة :