ثلاث جولات في الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وجولتان في مجلس الأمن، لمناقشة الموقف الدولي إزاء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن القدس، ينتصر خلالها المجتمع الدولي لقرارات الأمم المتحدة. سياسيا ومعنويا تشكل قرارات المؤسسة الدولية انتصارا للفلسطينيين، لكن المسافة طويلة بين تأكيد الحقوق وبين تنفيذها أو فرضها على أرض الواقع. العالم كله باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل، وعدد قليل من الدول الميكروسكوبية، يرفض القرار الأمريكي المتهور، ولكنه لا يتخذ اجراءً واحداً يمكن أن يردع دولة الاحتلال، أو يفرض على الإدارة الأمريكية التراجع. قبيحة كانت نيكي هايلي المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة، فلقد أظهرت مدى انحطاط السياسة الأمريكية، التي لا تحترم سيادة وكرامة الدول المستقلة، وتمارس بحقها الابتزاز. خطاب هايلي استفزازي لأبعد الحدود، وينطوي على عنجهية وفوقية يكمل الأسلوب الذي اتبعه رئيسها حين أعلن قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. خطاب المندوب الإسرائيلي لم يكن أقل قبحا وعنجهية، حين يتحدى مندوبي الدول فيعلن أن قرارهم سيؤول إلى مزبلة التاريخ. بعنادها على موقفها وسياساتها فإن الولايات المتحدة، تصنف نفسها إلى جانب إسرائيل كدولة مارقة، وتفقد أهليتها بالمساهمة كدولة كبرى في حفظ السلام والأمن الدوليين. والحقيقة هي أن سلوك الولايات المتحدة ليس جديدا، فلقد وقفت غير مرة في عديد المؤسسات الدولية إلى جانب إسرائيل، تمارس الابتزاز، وتهدد بسحب أو تخفيض مساهماتها المالية في ميزانيات الأمم المتحدة، أو تنسحب منها كما فعلت في اليونسكو. فقط قوي البصر وضعيف البصيرة هو من راهن على سياسة أمريكية تحظى ولو بقدر محدود من النزاهة والموضوعية، إزاء قضايا العالم ومنها القضية الفلسطينية. كان جميلا وزير خارجية فنزويلا الذي تحدث باسم مجموعة عدم الانحياز حين ختم خطابه بالقول: “إن العالم ليس للبيع”. غير أن التساؤل الذي يجري على ألسنة الصحفيين والمراقبين هو: ماذا بعد؟. الفلسطينيون يخرجون إلى الشوارع، وأماكن الاشتباك منذ ثلاثة أسابيع، والدبلوماسية الفلسطينية لم تتوقف عن التحرك على مختلف الجبهات وقد تحققت إنجازات لا يمكن التقليل من أهميتها، لكن كل ذلك لم ينتج قرارا واحدا إجرائيا. فلسطين ما تزال عضو مراقب في الأمم المتحدة، وبإمكانها أن تحصل على قرار تعديل وضعيتها إلى دولة كاملة العضوية. المجموعة العربية لم تتقدم بعد إلى مجلس الأمن والجمعية العامة بمشروع سبق أن هددت بتقديمه حول إنهاء الاحتلال، فضلا عن أن من الصعب في الظروف الحالية الحصول على قرار بالحماية الدولية، والإجراءات نحو المحكمة الجنائية الدولية بطيئة جدا، ولا طائل من انتظار مبادرة من قبل دولة أو مجموعة من الدول لكي تأخذ مكان ومكانة الولايات المتحدة في رعاية مختلفة للعملية السياسية. حتى فرنسا التي تتقدم الدول الأوروبية في مواقفها من الحقوق الفلسطينية، لا تجرؤ على تجاوز الولايات المتحدة، لا بالنسبة للاعتراف بدولة فلسطين، ولا بالنسبة لطرح مبادرات فعالة إزاء تحريك العملية السياسية. من المؤكد أن الدبلوماسية الفلسطينية ستتابع التحرك في أروقة المؤسسات الدولية، وفي العلاقة مع مختلف دول العالم، ولكن هل يراهن البعض على أن الهدف من كل ذلك إعادة إحياء آليات جديدة للتفاوض أم أن إغلاق الباب أمام الدور الأمريكي يغلق عمليا الباب أمام كل هذا النهج في العمل السياسي!. واقعيا فإن قرار ترامب والسلوك السياسي للولايات المتحدة، الذي يكرس ويدعم سياسات ومخططات إسرائيل التوسعية، قد وضع حدا للسياسة الفلسطينية القائمة على أساس حصر الحقوق في إطار الأراضي المحتلة منذ عام 1967، بعد أن وضع حدا لمنهج المفاوضات سبيلا لتحقيقها. على الفلسطينيين أن يتوقفوا عن المكابرة وخداع الذات، فلقد نقلت إسرائيل المدعومة أمريكيا الصراع من صراع على الحدود إلى صراع على الوجود، مما يتطلب استراتيجية وطنية مختلفة دون تحقيقها، استمرار الانقسام، الذي يظهر طفحا على جلود الفلسطينيين وقضيتهم وحقوقهم التاريخية. بعد قليل من الوقت ربما سيكون من الصعب الاحتفاظ بزخم المقاومة الشعبية السلمية، أو حتى صمود مواقف الفصائل على الطبيعة السلمية لمواجهة المخططات الإسرائيلية، التي تستعجل تهويد القدس، وتوسيع الأعمال الاستيطانية. إذا كان ثمة شك في أن يستمر المشهد على ما هو عليه اليوم، فإن الاحتفاظ بالأولوية المطلقة لأسلوب المقاومة السلمية يقتضي الاستعجال وبدون أي تأخير في ترميم وإصلاح الجبهة الفلسطينية الداخلية. غريب ومستهجن أن يسعى الفلسطينيون وراء تحشيد المجتمع الدولي ولا يبادرون إلى توحيد الصفوف، ومخجل أن تواصل الدول الصديقة مطالبتها باستعادة الوحدة، فيما الوحدة ما تزال رهينة الحسابات الخاصة.
مشاركة :