عن الحب والتيه.. وأشياء أخرى

  • 1/1/2018
  • 00:00
  • 22
  • 0
  • 0
news-picture

يحاول المحبون الحديث عما يجيش في صدورهم، فمنهم من يكون الشعر لسان حاله، وبعضهم يهذي هذيان من مسه جنون ومرض، ولكن المؤكد الذي لا مفر منه، بأن أحاديث العاشقين لا تمت للعقلانية بأي صلة، فكيف لحديث فيه من المنطق والعقل الكثير أن يحمل شيئًا من المشاعر، وهل يمكن أن نربط الجماد بالكائن الحي، وكيف يمكن لملاحظات متراكمة، وافتراضات مؤجلة أن تكون رسولاً صادقاً للمشاعر، أن تحيي في القلوب آهات ميتة، أن تسقي حقول الانتظار على غفوة الأصيل، أن تجعل البلاغة والشعر والأدب عناوين في دفاترنا المبثوثة في جدران الذاكرة، أن تبني في كل مدينة حديقة يجتمع فيها المحبون، لا أن تبني مدن الدمار والوحشة.. لا أدري.. وربما لا يمكن. ولكن ما أعرفه تمام المعرفة أن لغات المحبين تختلف اختلافاً مبهماً بين محبٍّ وآخر، فبعضهم لا يتواصل إلا بطلاسم غرائبية التعبير، أشبه بأصوات بائدة من حضارات مندثرة، تتمتمها شفاه اشتاقت لرشف بلسم الحياة الأبدي، هي لغة لا تعبيرات محددة فيها، ولم يضع قواعدها بشرٌ على حين وعي أو غرق في الحب، بل اتفق المحبون على استخدامها على حين غفلة في ليالي الشتاء الباردة، هي لغةٌ لا تحتاج نطقاً كثيراً، ففيها إشارات تحتفي بها العيون، وتغيب بعدها صوب الأفق والغيم، وفيها لمسة حانية على شعرٍ حريري في غسق وجد.. وضمة تجعل العالم ينطوي في أنفسنا وفينا أجرام مهولة من طاقة الاستمرار والعطاء.. هي لغة واحدة من لغاتٍ شتى، لا قواسم بينها في التركيب والكلام والنطق، ولكنها تشترك في الاشتياق الأبدي، وتلك الأمواج الهادرة من الطاقة حتى التوهج، ومن الخيبات حتى الأفول، هي تلك اللغة التي لا يمكن أن تُكتب، ولا يمكن إلإ أن تتلمس دفأها. أستقي من اللاممكن الذي يعتريني، وجود تلك الحالات الغريبة، ذلك التيه الجميل، ذلك الغياب الذي أكتبك فيه بكل شغف، لا أدري أهو من الخيال أم أطياف حقيقة خجلى، هل هو نزعة تصوف في الكتابة، أم الحب والقلم صنوان في السكر والترنم، هل هي خمر المحبين التي قالوها هياماً وولهاً.. ذلك التيه الذي يدفعني لأن أغيب عنك في لحظات شديدة الحاجة والحضور، فأنا الحاضر معك وبين يديك، الغائب بين النفس ولفظه، أرددك وأعرج لأفلاك أخرى، أغيب عنك نحو الشهود، كذلك الصوفي الذي تعتريه أحوال لا قبل له بها، ولكنه يسلم النفس في رضىً فهو عند الملك، وعنده يقف كل حبٍ ووجد.. ما زلت أتهيب الخوض في أحاديث الحب، أفزع أن أعرّفه، أن أحيط بجوانبه، أن أجعله كلمات ربما تموت أو تختفي، وتجتاحني مع كل خاطرة ما لا أعده من تساؤلات، وتصبح أداة الاستفهام ضرباً من العذاب الذي أشتهيه، ولا أريده.. ما هو الحب يا ترى؟ وهل هو في خفة خفقة جناح فراشة فوق بتلة زهرة أو برعم شجر؟.. أم هو ذلك السر الكبير الذي لم تكتشف غرائبه وما يخبئ لنا حتى اليوم؟.. هل هو ذلك الشعور الفطري الجبلي، ينساب كينابيع تهمي فوق الذرى والحقول؟.. أم هو تلك الوشائج والعلاقات القلبية، التي تختلط بين النفس والعقل والروح، وتشتبك في صراع دائر لم يدر أن يكشف غموضه أكثر عقول الفلاسفة ذكاءً وأعمقهم فكراً؟.. أتلهى بهذه الأسئلة السمجة، لكي أبتعد عن الحقيقة الوحيدة التي أعرفها، بأنني ما زلت أتوه في ذلك العشق مذ رأيتك في اللحظة الأولى، ويزيد تولهي بك في كل يوم، تضطرم هذه النيران في صدري، ولكنها أمامك تصبح برداً وسلاماً.. أخدع نفسي بأني أكتب لك وأكتب عنك، ليست الكتابة إلا مسكناً أدفع فيها بعض ما جال في صدري، فالحب لا يمكن أن تكتبه، بل هو يكتبتك على سطور من حضور والتزام، ووله استطاع الاخضرار في سنوات الخير وأبقى بعضه في سنبله لسنوات عجاف لن تأتي.. سيظل الشوق هو المعيار الصادق في ردم أي هوة يمكن أن تلفح وجوهنا في هذا المسير الطويل، وأن يهرب القلب بعيداً، وينزوي لسببٍ ما، سيظل الشوق ذلك الجسر الذي نعبر عليه ونلتقي في منتصفه، لقاء المحبين الأوائل، سيظل الشوق، تلك الواحة التي لا يمكن أن تبتلعها رياح دخيلة أو أصوات مجهولة الوجود، سيظل الشوق صوت الأصيل في مساءاتنا المرهفة، وتلك النسائم التي يمكن أن تعيد بهاء العمر ولو بعد عشرٍ من السنين. هي تلك الأناة التي تعيد للقلب سكونه، فيسكن بعد تسارع نبضه، تكلّ اليد عن المتابعة قليلاً، لم يكن هذا كلّ شيء، ولم يكن أي شيء.. هو بضعٌ من بعضي، أضعها في بعض أحرفٍ وجمل، وأحملها ما لا يمكن أن تحتمل، لتصل إلى من يصله كل شيء قبل أن أقوله.. هي ليست رسالة، هي من كل شيء وأكثر، هي بعض مني، ومن بعض حبي، ومن بعض نفسي.. إليك هناك، حيث لا أحد إلا إياي فيك، وإليّ هنا حيث لا أحد إلا أنت.. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :