عصر «الحداثة السائلة»: أفول الإنسان العمومي

  • 12/31/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

بيروت – أنديرا مطر| عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت صدرت في نهاية العام الماضي الطبعة الثالثة من ترجمة كتاب المفكر البولوني الأصل زيجمونت باومان بعنوان «الحداثة السائلة» بترجمة المصري حجاج أبو جبر وتقديم هبة رؤوف عزت.فقه الواقع اليوم هذا الكتاب هو الأول في سلسلة من كتب هذا المفكر، التي تندرج ضمن مفهوم «السيولة». والحداثة السائلة هي مفهوم جديد نحته باومان لكي يكون أداة شاملة لفهم النسخة الراهنة من الحداثة في الفكر والحياة اليومية والأدب، وفي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا المفهوم هو من اشتقاقات زمن العولمة وعالم ما بعد الحداثة. في مقدمة هبة رؤوف عزت للكتاب تشير إلى أن سلسلة كتب باومان تقع ضمن ما تسميه «فقه الواقع» الذي يتعرض لمسألة فقه الحداثة ومنطلقات فهمها وتجليات منظومتها في الواقع الذي نعيشه. باومان يقترب من الحداثة بصيغتها الحداثية ويجد القارئ نفسه مستوعباً الظاهرة التي يقرأ عنها ويدرك انه في داخلها. ولا يعني ذلك أن أفكار باومان تعينه على فهم ما يعيشه من مشكلات وما يواجهه من تحديات فحسب، بل تساعده على بناء فهم نقدي لمساراته الشخصية الراهنة.العالم السائل تقوم الفكرة الأساسية لهذا الكتاب على ادراك مأزق الحداثة التي نقلت انسان عصر التنوير من صلابة العقلانية في مراحلها الأولى، إلى سيولة الرشد (التعايش مع الواقع كما هو) في واقعنا الحالي. وبالتالي سيولة مفهوم الانسان نفسه. ولو اردنا أن نمسك الخيط المركزي في فكر باومان يمكننا القول انه يشدد على أن الحداثة غيرت مقومات العيش الإنساني، وأعادت تعريف الزمان والمكان لتمنحهما معاني أكثر اقترانا بالسيولة الرأسمالية في مراحلها المتتالية. فالحداثة في نسختها الأولى تولت مهمة اطلاق حرية التحقق والاختيار الإنساني من أسر الغيب وعدم الثقة وغياب اليقين في القدرة على سيطرة الانسان على هذا العالم. والحداثة في نسختها الأولى تلك قامت بحرب غير مقدسة لإخضاع الطبيعة بالعلوم وللعلوم، وبالتالي رفعت مستوى الحرية وضمان الفردية وإخراج المرء من القفص الحديدي للتقاليد. لكن التقاليد لم تنته بل اختلف فهمنا لها، والتاريخ لم ينته كما زعم فوكوياما، والقديم لم يتلاش ولا الحديث استمر واستقر على حال، بل وجدنا انفسنا وسط أنواء وارتباكات ومفارقات. وهذا الذي وجدنا اننا فيه اليوم، ومنذ بدايات العولمة، هو ما يسميه باومان السيولة.مجتمع المخاطرة يعدّ استخدام باومان مفهوم السيولة في مقابل الصلابة (أي بداية الحداثة)، موازيا لاستخدام الفيلسوف الالماني أولرش بيك مفهوم «مجتمع المخاطرة» في مقابل مجتمع الاستقرار والوئام الذي وعدت به الحداثة في بداياتها. وهناك من يقول ان التمييز الذي يقيمه باومان بين بدايات الحداثة وما هي عليه الحداثة اليوم، شبيه بالتمييز بين ما يسمى الخشونة والنعومة في العلاقات السياسية الدولية اليوم. ومن ملامح الحداثة السائلة تراجع الخير العام والهم العام وكل ما هو مشترك في الاجتماع الإنساني امام تغوّل المجال الخاص والاجندات الشخصية. وهي النقلة التي تمت في مشهد الحداثة في العقود الماضية، كرد فعل على تغول المجال السياسي والتهامه التنوع الثقافي والمجتمعي في مرحلة صعود الفكر القومي والدولة القومية الحداثية، من أجل بناء الامة القومية، وصولا الى التدخل في الحياة الشخصية في ظل النظم السلطوية التي تكاثرت ما بين الحربين العالميتين. ثم أتت بعد ذلك سيطرة السوق الرأسمالية على العلاقات الاجتماعية وعلى الثقافة.سقوط المواطن والحداثة السائلة تعني الخروج عن هذا كله. وتعني أيضا أفول الشخص العام، وسقوط تصور المواطن ودولة الرعاية الاجتماعية وانسان المجال العام في صورته الحافظة لرابط التمدن. ويرى باومان ان السيولة تسربت إلى كل نواحي الحياة وغيرت النظرة الى الذات والاشياء. فعالم اليوم يشهد عنفا سائلاً، أي منفلتاً من عقاله، ويتعرض لتهاوي الأنظمة وتفكك الروابط كلها. حين صدر كتاب الحداثة السائلة باللغة الإنكليزية في عام 2000 قيل إن افضل وصف له هو أنه قصة سفر، قصة انتقال أو عبور، قصة التوسع التدريجي المتواصل للمسافة التي تفصل الظرف الحياتي الحالي عن نقطة انطلاقته (أي الحداثة).بين السلطة والسياسة ويلخص باومان فكرته عن الحداثة السائلة بطريقة مبسطة «اننا بعكس أسلافنا نفتقر إلى صورة واضحة لوجهة نسير اليها ونقصدها، وجهة تمثل نموذجاً لمجتمع عالمي واقتصاد عالمي وسياسة عالمية وسلطة قضائية عالمية». ويقصد باومان بأسلافنا أولئك الذي عاشوا مرحلة الحداثة في بدايتها، أي الحداثة الصلبة. فنحن اليوم بلا وجهة لا نصل إلى مكان، وننشغل بالكوارث التي تلمُّ بنا، متحسسين طريقنا في الظلام. اننا نشعر أكثر مما نعلم. والسلطة (أي القدرة على فعل الأشياء) انفصلت عن السياسة (أي القدرة على تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها) وإعطاؤها الأولوية. وهكذا نعاني ارتباكاً لأننا لا نعلم ماذا نفعل بل لا نعلم من سيفعل. فالقوى الوحيدة للفعل الجمعي الهادف التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا انما تنحصر بطبيعتها في حدود الأمة – الدولة التي تضمحل اليوم وتتلاشى. وما كنا نسميه في الماضي القريب «ما بعد الحداثة» يسميه باومان الحداثة السائلة أي «الايمان المتنامي بأن التغيير هو الثبات الوحيد، وأن اللايقين هو اليقين الوحيد. وإذ كانت الحداثة في المئة عام الماضية تعني الوصول إلى حالة نهائية من الكمال، فإن الحداثة تعني اليوم عملية تحسين وتقدم لا حد لها من دون وجود حالة نهائية في الأفق ومن دون رغبة في وجود مثل هذه الحالة. لقد أصبحت الحياة أقرب الى تسويات مؤقتة منها الى حلول نهائية. وهكذا حلت المرونة محل الصلابة بوصفها الوضع المثالي للتعامل مع الأمور والاشياء».خوف بلا مرساة خلاصة القول: كان التحديث ميدان سباق له خط وصول مرسوم ومقرر سلفاً، وكان حركة مكتوب عليها ان تصل الى منتهاها. لكن السيولة التي تتسم بها أزمنتنا جعلت كل شيء في حال مخاض دائم، فلا تتحقق أبداً. فالحرية مثل كثير من القيم العليا والنظم، تتفكك وتتجزأ بعدد الافراد. ومراكز الفعل في العالم تتعدد على كوكب تجمعه شبكة كثيفة من علاقات القوة والاعتماد المتبادل. وفي ظل حال السيولة كل شيء يمكن أن يحدث ولا شيء يمكن فعله بثقة واطمئنان. والخوف الذي يولد من النفوس من دون أن نستطيع ادراكه ولا تحديده ولا وصفه هو خوف بلا مرساة، خوف يبحث عن مرساة في تهور واندفاع. ويمكننا أن نقارن العيش في الحداثة السائلة بالسير في حقل ألغام. فالكل يعلم انه ربما يحدث انفجار ما في أي لحظة وأي مكان، لكن احداً لا يعلم زمن وقوع هذه اللحظة ولا مكان الانفجار.

مشاركة :