اليسار التونسي فاقد لزعيم يلم شتاته ولخطاب يتحدث لغة المجتمعتُوجّه في الأوساط السياسية والمجتمعية التونسية العديد من الانتقادات لكل الحركات اليسارية بالبلاد، تمحورت جلها حول عدم قدرتها على اختراق النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع التونسي وبقاء خطابها يدور في فلك ثورة البروليتاريا في مجتمع لا توجد به بروليتاريا أصلا بالمعنى الماركسي، وهو مختلف في تركيبته وفكره وتوجهاته ومطالبه عن المجتمعات التي تبلورت فيها الشيوعية الماركسية اللينينة، بل إن هذه الأيديولوجيا فقدت الكثير من زخمها حتى في تلك المجتمعات. وتتفق مجموعة من الباحثين وأعضاء في أحزاب يسارية على أن الأرضية الراهنة في البلاد مناسبة لليسار التونسي ليراجع نفسه ويجدد خطابه بما يتوافق مع خصوصية المجتمع التونسي، ويجعله القوة السياسية الثانية بعد التيار الليبرالي العلماني الذي يستمد جذوره من الثقافة السياسية التي تأسست عليها دولة الاستقلال ضمن تاريخ كان لليسار حضور هام فيه.العرب وسام حمدي [نُشر في 2018/02/04، العدد: 10890، ص(4)]قوة ولكن… تونس – على الرغم من عراقة الأحزاب اليسارية في تونس ومسيرتها النضالية الحافلة في مجتمع له توجّسات من الشيوعية الماركسية اللينينة، فإن كل الحركات اليسارية التونسية التي تبلورت أولى لبناتها الفكرية في عشرينات القرن الماضي بتأسّس الحزب الشيوعي التونسي في العام 1920 لم تتمكّن من لمّ شتاتها أو تخطّي عقبات ومعوّقات التصادم بينها حتى بعد خروجها من عالم السرّية الذي ميّزها في فترتي حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ومن بعده نظام زين العابدين بن علي. لا أحد يشكّك في نضال اليساريين وفي مساهمتهم عبر مواقفهم وأفكارهم ومبادئهم لا فقط في محاربة الدكتاتورية بل أيضا لإسهماتهم في تاريخ الحركة الوطنية التونسية ضد الاستعمار الفرنسي (1881 – 1956)، لكن بعد ثورة يناير 2011 بات اليسار التونسي يُتّهم إلى حدّ اللحظة بكونه مراهقا سياسيا تائها في برجه العاجي وحبيس المصطلحات والمفاهيم الماركسية. ورغم بروز بوادر التجمّع والتخلّص من عُقد وأمراض الزعامة والأيديولوجيا عقب تشكّل الجبهة الشعبية، المكونة من 9 أحزاب يسارية وقومية في العام 2012، فإن الجبهة، وإن كانت القوة الثالثة في البلاد بعد حصدها 15 مقعدا في البرلمان في انتخابات 2014، لم تحقق الانتشار الذي يصبو إليه كل يساري تونسي ولم تتمكّن من توظيف الثورة لصالحها ولم تستغل بالشكل الكافي اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي. يتميز اليسار التونسي رغم امتداده الثقافي بعدم انتشاره الشعبي والاقتصار على التغلغل في بعض النقابات أو صلب طلاب الجامعات وهو ما دفع بالعديد من الوجوه اليسارية خاصة بعد ثورة يناير 2011 في البلاد إلى التساؤل حول تواصل تشرذم اليسار ومحاولة تقديم مبادرات تجميع أو حتى فكرة تأسيس حزب يساري كبير. أحدث مبادرات التجميع والتوحيد لليساريين في تونس أطلقها عبيد البريكي، النقابي واليساري والوزير السابق في حكومة يوسف الشاهد، وسماها “مبادرة تجميع اليسار”. وأكّد البريكي في ندوة نظمت مؤخرا أن مبادرته تهدف إلى تكوين حزب يساري كبير لا جبهة مكونة من أحزاب وأنها لا تطرح ضمن برنامجها التصادم مع أحزاب سياسية أخرى وذلك في إشارة إلى الجبهة الشعبية.تيارات اليسار في تونس لم تتخلص من مرض الأيديولوجيا والنخبوية ولم تركز على أحد أهم مبادئ الفكر اليساري وهو الاقتراب من الفئات الاجتماعية الهشة لكنّ مراقبون في تونس يرون أن مباردة عبيد البريكي لن تفضي إلى توحيد اليسار بل ستزيد في تشتّته بمراهنته على استقطاب أنصار حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد المنضوي منذ سنة 2012 عبر مبادرة أمينه العام آنذاك شكري بلعيد في الجبهة الشعبية. ولا يرى الكاتب مصطفى القلعي أنّ هناك معنى اليوم لطرح موضوع توحيد اليسار لأنّها مسألة محسومة منذ تأسيس الجبهة الشعبيّة في أكتوبر 2012. أمّا ما عقب ذلك فهو خلع لأبواب مفتوحة وتشويش على الجبهة الشعبيّة. واعتبر أن مبادرة عبيد البريكي تأتي خارج السياق. وقال عبدالجليل بوقرة، الباحث والمختص في شؤون اليسار التونسي لـ”العرب”، “إن فكرة توحيد اليسار في تونس تبقى واردة، لكن أعتقد أن تعدّد المبادرات من ذلك المبادرة التي قدّمها عبيد البريكي ستزيد في ضرب اليسار وتشرذمه وليس العكس”. وأضاف بوقرة أن “اليساريين في تونس بجميع تشكلاتهم وتصوراتهم مازالوا لم يستوعبوا متطلبات الشعب”، مؤكدا أن “من أهم العوامل التي جعلت اليسار مشتّتا هي المعارك التي تشق قياداته والمتمثّلة أساسا في الهوس بالزعامة أو بالاختلافات الأيديولوجية اليسارية من قبيل يساري لينيني أو تروتكسي أو ماوي”. ويرى الباحث المختص في شوؤن اليسار التونسي أن كل الأحزاب والقيادات اليسارية في تونس فوتت على نفسها فرصتين هامتين للانتشار أو حتى الحكم وكان أولها وفق تعبيره ثورة يناير 2011. ويضيف أن “الشعب التونسي أهدى حركات اليسار ثورة لم يتمكّن من استغلالها خصوصا أنه كان اللاعب رقم واحد في البلاد آنذاك بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي وكانت له المشروعية في المسك بمقاليد البلاد خصوصا أن بعض قياداته أمثال حمة الهمامي اعتقلوا قبل اندلاع الثورة في 14 يناير من 2011”. والفرصة الثانية التي أهدرها اليساريون في تونس للتجمّع والانتشار الشعبي، فكانت وفق عبدالجليل بوقرة، لحظة اغتيال شكري بلعيد. فلم تستغل أحزاب اليسار هذه الحادثة بقدر ما وظفتها أحزاب يمينية، وكل ذلك راجع إلى الخلافات التي تشق قيادات اليسار. ووصّف بوقرة وضع الحركات اليسارية في تونس بالموغلة في جملة من المتناقضات، قائلا “اليساريون في تونس لم يتخلّصوا من مرض الأيديولوجيا والنخبوية ولم يركزوا على أحد أهم مبادئ الفكر اليساري وهو الاقتراب من الفئات الاجتماعية الهشّة في الأحياء والمناطق المهمشة”، مضيفا أنه “لا وجود لليساريين سوى في المنابر أو الملتقيات الفكرية عكس الأحزاب اليمينية وخاصة منها الدينية التي تمكّنت من التغلغل بسرعة في الأحياء الشعبية”. وشدد بوقرة على حقيقة أن اليسار التونسي فاقد لزعيم تكون له القدرة على التجميع مثل الشهيد شكري بلعيد، مضيفا أنه رغم صعوبات وإرهاصات الواقع السياسي في البلاد فإن له أملا في الشباب اليساري الجديد الذي يقلب القاعدة ويكسرها بانتهاجه خطا توحيديا معاكسا لما انتهجته القيادات والزعامات التاريخية لليسار التونسي. وفي قلب المعركة وتعدد الدعوات والمفاهيم المنادية بتوحيد اليسار التونسي، يرى مراقبون أنّ حروب أحزاب اليسار قد تشتد أكثر مما كانت عليه في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي خاصة في الأوساط الجامعية بتوجّهها نحو اصطدام مرتقب بين الجبهة الشعبية والحزب اليساري الكبير الذي تعكف وجوه يسارية في مقدمتها عبيد البريكي على تأسيسه. وقال عبدالمجيد بلعيد ( شقيق شكري بلعيد)، أحد مؤسسي مباردة تجميع اليسار والمستقيل من الجبهة الشعبية، “إن فكرة توحيد اليسار في تونس مازالت قائمة وواردة ولذلك قدّمنا مبادرة للمّ صفوف كل اليساريين بالبلاد”. وأضاف “الهدف من مبادرتنا ليس التنافس أو الصراع مع الجبهة الشعبية بقدر ما هو محاولة واقعية لتنفيذ حلم الشهيد شكري بلعيد في تكوين حزب يساري كبير”. وأكد أن المبادرة تهدف إلى التجميع لا التفريق خاصة أن اليسار التونسي بقي مشتّتا في أحزاب صغيرة لا حجم لها ولن تكون قادرة على التموقع في المشهد السياسي. وحول مغادرته الجبهة الشعبية التي كان شكري بلعيد أحد أهم مؤسسيها، قال عبدالمجيد بلعيد “لن أتهم أحدا ولن أزايد على أحد، لكن ربّما ما لم نستطع تحقيقه في الجبهة من أحلام شكري سنحوله إلى واقع في مباردة توحيد اليسار”.اليسار رغم امتداده الثقافي فشل في تحقيق الانتشار الشعبي واقتصر حضوره على بعض النقابات وطلاب الجامعات ويرى عدد من اليساريين التونسيين وخاصة المستقلين منهم أنّ الجبهة الشعبية بصفتها أحد مكونات اليسار التونسي لم تتمكّن من لم شتات اليساريين في البلاد بسبب عدم تطوّر خطابها الفكري الذي بقي متكلّسا ووفيا للخط اليساري التقليدي القائم على الرفض أو لعجز ناطقها الرسمي حمة الهمامي على لعب دور الزعامة على أكمل وجه. وقال الكاتب جلول عزونة، وهو من أبرز منظري اليسار في تونس وعضو الجبهة الشعبية، لـ”العرب” إن “فكرة توحيد اليسار تعيش، رغم الصعوبات، مراحل متقدّمة مقارنة بما كانت عليه في السابق والدليل على ذلك التحاق الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي بالجبهة الشعبية”. وأكّد عزونة أن كل اليساريين متفقون في تونس على أن أهم معوقات التجميع والتوحيد مرتكزة بالأساس على أمراض الزعامة أو الحرب الفكرية الدائمة بين التيارات اليسارية المختلفة كـاللينينة والتروتسكية والماوية. وحذّر عزونة من مغبّة تواصل التشرذم أو المضي قدما في ترويج خطاب لا أخلاقي خصوصا أن البعض سقط مؤخرا في محاولات تشويه الجبهة الشعبية وشيطنتها أو حتى تعمّد إطلاق حملات مفضوحة ضدّ الناطق الرسمي للجبهة الشعبية حمّة الهمامي. وحول معارك الزعامة التي تشقّ صفوف اليساريين، قال جلول عزونة “اليسار التونسي تميّز رغم تجذّره في التاريخ وامتداده الثقافي والأيديولوجي بحروب الزعامة لكن ذلك لن يمنعه من التجمّع لأن الأحزاب هي العمود الفقري لأي مشروع سياسي وليست القيادات فحسب”. وشدّد على أن الجبهة الشعبية لن تدخل في أي صراع مع أصحاب المباردات الجديدة لتوحيد اليسار بل ستلتقي معهم ربما في محطات نضالية قادمة. وبدا صالح الزغيدي، الناشط اليساري التونسي، متشائما في حديثه عن اليسار ووحدته ومستقبله، معتبرا أن مشكلة تشتت اليساريين تمثل معضلة فكرية وسياسية وتنظيمية تاريخية، إذا تواصل وضعهم على ما هو عليه من الضعف والتفكك والتشتت والانقسام، وأن لا شيء في الأفق –مع الأسف- يترك أملا كبيرا في تجاوز هذا الوضع. وأضاف أنه يكفي النظر إلى المشهد السياسي السائد ليتبين للملاحظ الموضوعي مدى “سكيزوفرينية” وضع اليساريين اليوم في تونس، مؤكّدا أن هناك من اليسار من يتموقع داخل الحكومة، يعني يشترك في حكم البلاد مع نداء تونس والنهضة الإسلامية بالخصوص. وأكّد صالح الزغيدي أن هناك من اليسار من يتموقع في صف المعارضة المطلقة والمتشددة إلى جانب حلفاء النهضة السابقين في الترويكا من أمثال حزب المؤتمر بتسمياته المختلفة، وهناك من اليسار، وهو في صف الحكومة، من يشارك في نفس الوقت في تحالف انتخابي واسع مع أحزاب تؤكد انتماءها إلى المعارضة وأخرى تنتمي بكل وضوح إلى النظام السابق. وشدّد الناشط اليساري التونسي على وجود شباب يساري يسعى -وسط محاولات بعض الكبار للركوب على المسعى- إلى لمّ شمل ما يمكن لمّه لتحريك قاطرة اليسار من جديد، ليختم بقوله إن “على اليساريين أن يعوا أن عليهم في هذا الظرف الصعب جدا على البلاد والأكثر صعوبة على اليسار. الاهتمام قبل كل شيء بـ”البيت الداخلي” وإعادة بناء اليسار في جميع المستويات التنظيمية والفكرية والسياسية. كاتب تونسي
مشاركة :