حيثما تزاحمت المصالح تقارعت السيوف.. هكذا يترائى المشهد الجيوسياسي و هكذا تقرأ تطورات الشرق الأوسط و مستجداته بدون تغطية و لا مواربة، فالتنافس الاقليمي المتنامي يأخذ أوجها مختلفة تتماشى مع التغيرات السياسية و الاقتصادية و العسكرية ايضا، و اذا ما قرأنا المشهد بمنطق و وضوح سنضطر الى القول بأن المنطقة يتنافس حول زعامتها اقليميا ثلاث قوى أساسية لتكون البقية اما خاضعة لإحداها و إما منحازة و إما متسلحة بالحياد مضطرة للمحاباة و لو على استحياء، فإيران التي تعتبر أقدم اللاعبين في الشرق الأوسط نسبيا و أجرءهم على الافصاح عن مشروعها تنافسها تركيا الصاعدة التي يرسم رئيسها أردغان ملامح طموحاتها اقليميا، في حين تمثل المملكة العربية السعودية المنافس الثالث في المنطقة معززة مواقفها و تحركاتها منذ تولي الملك سلمان الحكم و صعود ولي العهد محمد بن سلمان مؤخرا، و إذ ننوه الى أوجه المنافسة و الصراع أحيانا بين هذه القوى الاقليمية في مختلف الملفات من الأزمة السورية المعقدة الى الحالة اليمنية التي يظهر فيها الصراع بشكل شبه مباشر وصولا الى حرب التحالفات و صراع الاصطفافات حيث تمثلها أحداث قديمة جديدة في كل من العراق و لبنان و مصر و حتى داخل البيت الخليجي مع بروز الأزمة مع قطر و ما تبعها من تأثر و تأثير، فالقوى الاقليمية المتنافسة في الشرق الأوسط فهمت القيمة الاستراتيجية و الدور الجيوسياسي للقواعد العسكرية و التعاون العسكري خاصة اذا ارتبطت بمواقع حيوية تؤثر على ميزان القوى، لنا أن نتجاوز في هذا الرصد للتنافس الاقليمي الأدبيات التقليدية و المفاهيم المتداولة عن القواعد العسكرية بما هي حماية للدولة المستضيفة من الأخطار الخارجية و دعم للنفوذ و المصالح للدولة الضيفة لنتطرق للجانب السياسي الذي يستهدف السبق في التواجد العسكري كعنصر ردع يمنع دخول المنافس الاقليمي لدولة ما و الجانب الثقافي ايضا التي تحسن تركيا و بدرجة أقل ايران ادارته و استعماله، لا شك أن أي دولة تمتلك قواعد عسكرية خارج حدودها الجغرافية هي دولة قوية ابتداءً، و لكن القوة العسكرية هنا لا تنحصر فقط في القدرة على انشاء و تجهيز القواعد العسكرية خارجيا بل تتجاوزها لتشمل التأثير السياسي على الدولة المستضيفة من حيث التعاون العسكري و الاستخباراتي و من حيث قوة الردع التي تخلقها جراء تواجدها العسكري في تلك الدولة، فإذا فهمنا ذلك فقد سهل علينا تقييم التوزع العسكري الخارجي (القواعد العسكرية) للقوى الاقليمية الثلاث بحيث لا تجد تزاحما او تواجدا لقوتين على أرض دولة واحدة ! و لنا أن نرى أن التواجد الايراني الخارجي لا يأخذ أشكالا نظامية و قانونية في أغلب أحيانه بل في كلها، حيث تميل ايران الى التواجد في شكل ميليشيات و منظمات عسكرية موالية لها و منتخبة طائفيا و ولائيا من أبناء الدولة “المخترقة” ليسهل تدرجها و نفوذها دخل أجهزة الدولة و الحالة اللبنانية و العراقية أفضل مثال على ذلك حيث لا نسمع بقواعد عسكرية ايرانية في لبنان و العراق لكننا نرى بوضوح الاختراق السياسي و العسكري فيهما و هو مجانس للتواجد العسكري في شكل قواعد عسكرية و أشد تأثيرا منه، و لكن ايران سعت لحماية تواجدها في سوريا مثلا و التي يشهد الصراع الاقليمي فيها أشد حالاته بمحاولتها نيل قاعدة عسكرية غير انها اصطدمت بالرفض الروسي لتبقي على تمظهرها التقليدي عن طريق الميليشيات الموالية غير النظامية و هي بذلك تختلف تماما عن الاستراتيجية السعودية و التركية كونها دولة مارقة مخالفة للقانون الدولي منتهكة لمبادئ التعامل الدولية، فالسعودية مقبلة على افتتاح قاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي التي تربطها بها علاقات قوية سمحت بلا شك بالتوصل الى هذا الاتفاق و التعاون العسكري، و هي تطور ايضا من تواجدها السياسي الاقليمي في قارة افريقيا خاصة بعد نفاذها الى دول الساحل الافريقي (مجموعة الخمسة) و استعدادها لتمويل الاقتراح الفرنسي بإنشاء قوة عسكرية موحدة لمحاربة الارهاب هناك خاصة في مالي و النيجر و هي تحتفظ بعلاقات جيدة بموريتانيا احدى دول الساحل الخمسة و هذا يمهد الطريق بلا شك الى تعاون عسكري أبعد تفرضه مستجدات الأوضاع و متطلبات السياسة كما لا ننسى التواجد الاماراتي المحسوب على التحالف السعودي في المنطقة حيث تسعى لتعزيز تواجد عسكري في إريتريا و القرن الافريقي عموما، بغض النظر عن مستقبل الدور العسكري للتحالف العربي الذي تقده السعودية و تشارك فيه الامارات في اليمن و الذي قد يتطور لاحقا الى تواجد عسكري يأخذ أشكالا لوجيستية و تدريبية في اطار قواعد عسكري في اليمن، أما تركيا فقد أنشأت أواخر العام الفارط قاعدة عسكرية في الصومال لتتوج بها تواجدها و نفوذها المتنامي هناك و الذي اتخذ اوجها اقتصادية و تنموية بتوقيع اتفاقيات تعاون مشترك اضافة الى التعاون الابرز في المجال العسكري بالتدريب و تأهيل الجيش الصومالي، لكن القاعدة العسكرية الأولى لتركيا و الأكثر تأثيرا و احماءً للتنافس الاقليمي كانت في قطر الدولة الخليجية المجاورة للسعودية و القريبة من ايران و بها تتغلغل تركيا داخل المنظومة الخليجية و تراقب عن كثب الخليج العربي و ما يدور فيه تماما كما تدخل من القاعدة العسكرية في الصومال البوابة الافريقية من قبل المشرق حيث القرن الافريقي و ما يمثله من موقع استراتيجي و حيوي، و مؤخرا توجهت الأنظار الى التعاون التركي مع السودان، رغم علاقاته الجيدة مع السعودية و حيث تشارك قواته معها في عمليات التحالف العربي في اليمن، فقد كانت آخر محطاته الاتفاقية التي تتيح لتركيا تسلم ادارة جزيرة سواكن السودانية و المقابلة للضفة السعودية من البحر الأحمر حيث قيل أنها للتهيئة السياحية و الثقافية دون أن يمنع ذلك من تعزيز التواجد ليشمل العسكري، و هنا يبرز التنافس الاقليمي و خاصة بين السعودية و تركيا لابراز الدور الاقليمي و التواجد السياسي في نقاط القوة و التأثير في المنطقة و على رأسها منطقة القرن الافريقي و ما جاوره لما لها من بعد و قيمة جيوسياسية هامة، لكن الأهم من ذلك هي مآلات التواجد العسكري للقوى الاقليمية الثلاث خارج حدودها و مدى تطورها و انتشارها، و بصفة أهم مدى اثارتها للتنافس و حتى الصراع بين هذه القوى اذا ما مست او كادت مصالح منافس اقليمي اخر و هنا ننوه بالقلق السعودي و حلفائه للتواجد العسكري في قطر خاصة بعد الأزمة الخليجية التي لا تبتعد حيثياتها كثيرا عن ذلك، كما نلمح الى المآلات و التبعات السياسية اذا ما تطور التواجد التركي في جزيرة سواكن السودانية الى تواجد عسكري او ربما يأخذ شكلا صريحا بإنشاء قاعدة عسكرية هناك و ما له من تأثير و قلق على السعودية و مصالحها في البحر الأحمر، و ليس بعيدا من ذلك، لنا أن نقرأ التنافس الإقليمي الثقافي و الاقتصادي الناتج عن انشاء القواعد العسكرية للقوى الاقليمية خارجيا فلا شك أن الدولة التي توافق على انشاء قواعد عسكرية على أراضيها ستتمتع في المقابل بدعم اقتصادي و تنخرط في انفتاح ثقافي مع الدولة التي تسعى منطقيا لتنمية قوتها الناعمة الى جانب قوتها العسكرية، و هنا نلاحظ الاستثمار التركي في الجانب الثقافي خاصة مع تركيزها على الارث العثماني و استثمارها لأوجه التعاون الاقتصادية و الثقافية حيث تبرز الحالة السودانية من خلال جزيرة سواكن التي كان السبب المعلن وراء تسليم ادارتها لتركيا ثقافيا بالأساس لتهيئتها سياحيا و ترميم الآثار العثمانية فيها، في المقابل يظهر التعاون المتنامي بين السعودية و جيبوتي اقتصاديا و عسكريا في شكل اتفاقيات تدريب و تنسيق متبادل لتأخذ ايران الشكل الطائفي و اللعب على الدور الثقافي المعتاد، و مهما يكن من أمر، فلا شك أن التنافس السياسي بين القوى الاقليمية في المنطقة يشمل السعي الحثيث لتوسيع التواجد العسكري في شكل تركيزٍ لقواعد عسكرية خارج أراضيها تضمن بها موقعها و دورها في المنطقة و قد يأخذ أحيانا أشكالا مباشرة كالتواجد العسكري السعودي في اليمن او الايراني و التركي في سوريا و العراق، و هو ما ينبئ حتما بتنامي التنافس و الصراع بينها الى أبعد من ذلك بكثير . ———————————————————————- عبد الفتاح بن عطية كل الوطن
مشاركة :