لقد كانت تهديدات القيصر الروسي مرعبة، فالحديث الروسي عن أسلحة متطورة جديدة أثار اهتمام الدول الغربية و أمريكا بل و ربما أثار فزعها ايضا، و لا عجب، فتطوير صواريخ كروز “لا تقهر” حسب تعبير الرئيس بوتين و يمكنها الوصول الى أي مكان في العالم ليس بالأمر الهين، بل الأمر تجاوز ذلك حيث أكد أن الدرع الصاروخية الأمريكية في كل من أوروبا و آسيا غير قادرة على صد هذا الصاروخ و أنه اضافة الى غواصة تم تطويرها هي الأخرى سلاحان جديدان بقدرات نووية، الخارجية الأمريكية لم تتأخر في الرد، حيث وصفت المتحدثة بإسمها هيذر نويرت الاستعراضات الروسية بغير المسؤولة متهمة روسيا بإنتهاك التزاماتها بموجب معاهدة القوات النووية و مؤكدة أن بلادها على دراية مسبقة بهذا التطوير، من هنا نستطيع فهم جزء من الحيثيات التي بنيت عليها “استراتيجية الدفاع الوطنية” التي أصدرتها وزراة الدفاع الأمريكية البنتاغون منذ شهر يناير الفارط حيث وضعت مواجهة روسيا و الصين في محور استراتيجيتها الجديدة، و قد أكد وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس في معرض حديثه عن الاستراتيجية أن الولايات المتحدة ستواصل حملتها على الارهاب لكن محور التركيز الأساسي للأمن القومي الامريكي سيكون المنافسة مع القوى الكبرى، اذا، تغيير الولايات المتحدة الأمريكية لمحور استراتيجيتها الدفاعية من اهتمامها بالحرب الدولية على الارهاب، و هو ما ميز سياساتها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي بداية التسعينات، الى التركيز على منافسة القوى العالمية الصاعدة روسيا و الصين مؤشر على زوال الاستفراد الأمريكي بتسيير الملفات الدولية و احتكارها للتسيد العالمي، و هو مرتكز تحليلي تبنى عليه القراءة الاستراتيجية لخارطة النفوذ العالمي، و عليه فإن السياسة القائمة منذ انتهاء الحرب الباردة و التي توسلتها أغلب دول العالم في رسم مصالحها و تحالفاتها ستتغير حتما مع كسر صنم القطب الواحد، فالولايات المتحدة الأمريكية و إن سلمنا أنها لا تزال القوة العالمية الأولى بجيش هو الأكبر اعدادا و عددا، لكن علامات تراجع دورها عالميا لا تخفى على بصير، فمنذ أن كانت صاحبة اليد الطولى في الشرق الأوسط و كانت حلول الأزمات و تسوياتها تصنع في واشنطن هاهي روسيا تزاحمها في أكثر من ملف و تفرض رأيها في أكثر من مناسبة حيث أصبح مستقبل التسوية في سوريا و تفاصيل واقعها رهينا للرؤية الروسية لدرجة يعجز المجتمع الدولي عن تنفيذ هدنة انسانية فيها، و روسيا ايضا تواصل خوض طريقها نحو توسيع التحالفات بما يقربها أكثر من المياه الدافئة التي لطالما كانت حلمها عبر الدخول من البوابة المصرية و لعب دور في الأزمة الليبية ناهيك عن فرض أمر واقع فيما يتعلق بالملف الأوكراني، و على الجانب الآخر تبرز الصين كقوة اقتصادية صاعدة معززة موقعها بنمو متزايد جعل منها القوة الثانية عالميا، و ليس هذا فحسب، بل ساهمت دبلوماسيتها الاقتصادية في جذب الحلفاء و تأسيس الشراكات ما يعوض غيابها سياسيا و عسكريا في أي أزمة من أزمات المنطقة و لعل نفوذها الاقتصادي في افريقيا و تحالفاتها الاقتصادي مع دول جنوبي شرق آسيا بما يخدم مشروعها الاستراتيجي “الحزام و الطريق” خير مثال على دبلوماسيتها تلك، لكنها في المقابل عززت من بناء جيش يتلائم و قوتها الاقتصادية و يؤسس لدور عسكري أعمق في العالم، فالقوة العسكرية الصينية في منطقة المحيط الهادي الآسيوي تقترب من مثيلتها الأمريكية هناك مع مشاريع تصنيع عسكري عملاقة تشمل صناعة حاملة طائرات و مقاتلات الشبح تغير بلا شك موازين القوى العسكري العالمية اذا ما اضفنا اليه التفوق العددي للجيش الصيني الأكبر عالميا، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تبقى القوة العسكرية الأكبر عالميا و أكثر الدول انفاقا عسكريا اذ اقرت زيادة ب5٪ لهذه السنة مقارنة بالعام الفارط، و رغم ذلك يترائى للجميع تراجع النفوذ الامريكي عالميا مع ملامح حرب باردة مع الصين و اختلاف مع روسيا و كوريا الجنوبية، كل هذا مشفوعا بخروج أمريكي من أزمات الشرق الأوسط و اتباع سياسة تكاد تحرم التدخل العسكري الخارجي بقوات أمريكية مباشرة يفتح المجال للتساؤل عن موقع الدول العربية في خارطة المصالح و التحالفات الدولية و هل استوعب العالم العربي حقيقة انتهاء الأحادية القطبية و دخول العالم مرحلة يتسع معها هامش الحيوية الاستراتيجية بعيدا عن الذوبان في سياسة عالمية مقولبة؟، تتضح الصورة مع ذلك بلا شك بأن ما يجب على العالم العربي في ظل التغيرات الاستراتيجية العالمية، تجنب التكرار الوظيفي لتوجهاته و تموقعه و عدم الانخراط في صراع التحالفات الذي ميز عصر الثنائية القطبية و ما سحبه من وبال و انقسام و انهيار على دوله و كياناته، و أن قدرنا غير منوط بالمراهنة على قوة عالمية دون غيرها نسقط بسقوطها و قد لا نصعد بصعودها بل هو حتما تقديس المصالح و أولويتها و توسيع التحالفات و تنويعها و موازنة التعامل مع القوى العالمية بما يجنبنا صراعاتها و يحفظ مصالحنا . ————————————————————— عبد الفتاح بن عطية كل الوطن
مشاركة :