"كرم القواديس".. سيتوقف التاريخ طويلاً أمام هذا الاسم، حين يتحدّث في المستقبل عن تلك الموقعة التي سقط فيها عشرات الجنود المصريين، وأصيب العشرات مثلهم في سيناء، إثر عملية ارهابية قِيل إن مَن نفذوها ينتمون إلى جماعة تُطلق على نفسها اسم "أجناد بيت المقدس". أكثر ما يستوقف التاريخ ليس عدد الضحايا، وإنّما تأثير العملية ذاتها على مسار التاريخ ذاته، فبعض العمليات أو الحوادث يسقط فيها آلاف الضحايا دون أن يتغيّر مسار التاريخ، أمّا تلك التي تدور في سياق ما يمكن وصفه بحرب الخرائط، فإنها تفتح أبواب التحوّلات التاريخية على مصراعيها، وتحت هذا العنوان يمكن إدراج يوم كرم القواديس. الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي بدا غاضبًا بشدّة عقب ذلك الهجوم على عناصر جيشه، اتّهم -ولأوّل مرة- قوى دولية لم يسمِّها بالوقوف خلف الهجوم، فيما راح محللون يخمّنون أن تكون تركيا، أو ايران، أو حتى قطر بين تلك القوى الدولية، لكنّ قرارًا مصريًّا لاحقًا بعدم تجديد اتفاق تجاري للنقل بين تركيا ومصر كان قد أبرم إبّان حكم جماعة الإخوان المسلمين، ربما أشار بوضوح إلى أن تركيا قد تكون هي الطرف الدولي الذي أشار إليه الرئيس المصري، الذي طالما أبدى صبرًا وضبطًا للنفس إزاء تصريحات عدائية للرئيس التركي أردوغان حول مصر، وحوله شخصيًّا. أيضًا، فإن محادثات أجراها وزير الخارجية المصري قبل ساعات مع نظيريه القبرصي واليوناني، ربما أشارت إلى خارطة تحالفات جديدة شرقي المتوسط، بعدما طالب الأطراف الثلاثة (مصر واليونان وقبرص) بوقف برامج استكشافية تركية للغاز والبترول في مناطق التماس في أعماق شرقي المتوسط. الإجراءات التي ألمح إليها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عقب اجتماعين عُقدا برئاسته لمجلس الدفاع الوطني، ثم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، تشير إلى تحوّل في السياسة المصرية تجاه التعامل مع العمليات الإرهابية على الأراضي المصرية، ينتقل بتلك العمليات من المنظور الأمني الضيّق، باعتبار ما يقع هو حوادث عنف أو إرهاب محدودة، إلى المنظور الإستراتيجي الواسع، باعتبار أن محطة "كرم القواديس" هي في التاريخ المصري الحديث، نقطة تحوّل، تتبدل معها الخارطة السكانية لشمال سيناء، وتمتد التحوّلات لتشمل مناطق بالصحراء الغربية المتاخمة لمناطق الاضطراب في ليبيا. حادثة كرم القواديس في جوهرها، ليست هي بذاتها نقطة التحوّل في مجرى صراع داخلي شمل الإقليم كله تقريبًا، بين قوى عائدة من الماضي، مدعومة من قبل قوى دولية ترى الظرف مواتيًا لإعادة رسم الخرائط وتوزيع الأدوار، وبين قوى وطنية، ترى ومعها الحق، أن وحدة أوطانها مستهدفة، وأن صميم وجود تلك الأوطان بات على المحك، وهو ما أشار إليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لأول مرة متحدثًا عن أن مصر تواجه تهديدًا حقيقيًّا لصميم وجودها. عندما ترى أن ثمة في العالم من يستهدف مصر، أو من يريد زحزحة أو تحريك أو تهشيم أول حجر في التاريخ الإنساني، لدولة قامت داخل حدود معلومة، صانتها سلطة سياسية وجيش، فاعلم أن غايته ليست مصر وحدها، وإنما الإقليم كله، وربما العالم من بعده، فتحريك الحجر المصري الراسخ كالأهرامات عند المدخل الشمالي لقارة إفريقيا، وعند نهاية التخوم الغربية لقارة آسيا، سوف يعني تحريك الخارطة الدولية بأسرها، وهي عملية ربما لم تعرف مثلها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، رغم حماقات أصابت بعض رموز التاريخ القديم والحديث، انتهت كلها بسقوط الحمقى، وبقاء الخارطة، وفي القلب منها "مصر". حرب الخرائط التي تدور رحاها الآن فوق خارطة العالم الإسلامي وحده، تحت شعارات أغلبها إسلامية -مع الأسف- تتكشف أهدافها وأبعادها كل يوم، فيما يتابع البعض فاغرًا فاه من الدهشة، تقدم قوات داعش على الأرض في مناطق بعينها (سنية) في العراق وسوريا، بينما يجري تأهيل وتسليح الأكراد لـ"الدفاع" عن مناطق كردية، فيما لا يقترب الدواعش من مناطق الشيعة، بينما يتمدد الشيعة في اليمن، دون جهد دولي حقيقي لإيقاف هذا التقدم، بينما يستمر تحليق طائرات تحالف دولي عملاق في سماء مسرح العمليات، مكتفيًا -فيما يبدو- بالرصد والتصوير، وبعض المهام "الإنسانية"!! تحوّل الموقف المصري بعد حادثة كرم القواديس، من التزام منهج أمني، إلى تبنّي إستراتيجية هدفها صيانة وحدة وسلامة أقدم حجر فوق رقعة شطرنج الكون، يعكس وعيًا وجوديًّا لدى المصريين ليس بمقدار ما يتهدد خارطة مصر ووجودها، وإنما بمقدار الأخطار التي تهدد صميم خارطة إقليمية قال عنها توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، إن التاريخ قد تجاوزها، ولهذا فلا ينبغي النظر إلى قرار مصري بإنشاء منطقة عازلة مع قطاع غزة، لتأمين سيناء ضد اختراقات تكررت عبر القطاع، بمعزل عن قرار مصري آخر بتأهيل جيش ليبي قادر على استعادة الاستقرار في ليبيا، وصيانة سلامتها الإقليمية ضد مخططات لتمزيقها، ولا بمعزل عن مسعى مصري لاستعادة السودان إلى حظيرة الالتزام العربي بالأمن الإقليمي. حرب الخرائط، مقدمة لحرب الأدوار، وكلاهما لا يريد أن يصبح أي عربي فوق ذات الأرض التي أمسى عليها، لكن التزام الأطراف العربية الفاعلة بتصور دفاعي بحت، لا تتجاوز أمانيه حدود "حلم البقاء" أو بمجرد الاحتفاظ بالرؤوس فوق الأعناق، لن يدع رأسًا واحدة تستقر فوق عنقها، وفي ظني أن أهم مقومات البقاء، قبل السلاح وبعده، هو امتلاك مشروع حضاري عربي غايته الإنسان الذي هو أداته في نفس الوقت، مشروع يتبنى أحلام المواطن العربي في "المواطنة الحقة"، ويتيح له شراكة حقيقية منصفة، وتعليمًا يليق بأمة تواجه خطر الانسحاق تحت أقدام التاريخ، فيما ينظر البعض إليها باعتبارها "رجل العالم المريض". آن لهذا المريض أن يدرك أسباب علّته، وأن يتعامل معها بالعلم وبالوعي، لا بالحناجر ولا بالخناجر، فالمعرفة وحدها هي سبيل أمتنا إلى البقاء والرخاء. moneammostafa@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :