أحد الأسئلة المحيرة في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب هو ذاك الذي يحاول توصيف واقع الحال بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، ويضع النقاط على الحروف سيما سؤال: من له اليد العليا؟.. بمعنى: هل تل أبيب هي التي تأتمر بأوامر ونواهي واشنطن؟ أم أن واشنطن هي في واقع الحال مطية لشهوات قلب تل أبيب ومنفذ لرغباتها تحركها يمينا تارة وشمالا إن رأت ذلك في مصلحتها الإستراتيجية مرة أخرى؟. يأتي السؤال المتقدم ولاشك في ظل المواقف الأمريكية الأخيرة من القضية الفلسطينية، وبنوع خاص تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ، وقد جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة حول حضوره حفل إفتتاح السفارة الأميركية في القدس لتعمق من الرغبة في البحث عن أبعاد تلك العلاقة، وحتى يتبين لنا كيفية التعامل الصواب مع الطرفين؟. بإختصار غير مخل، نشير إلى أن اليهودية ساكنة البيت الأبيض منذ تأسيسه، فقد كان جل المهاجرين من أوروبا إلى الولايات المتحدة من اليهود والبروتستانت الفارين من التعسف الديني الأوروبي، ولهذا اعتبروا الأراضي الأميركية كنعان الجديدة، أي أرض الموعد الجديدة، ومن هنا اخترقت الأفكار اليهودية الروح الأميركية منذ أن وضعت اللبنات الأولى للدولة الأميركية. على أن أهم مرحلة بلورت شكل تلك العلاقة التي جرت بها المقادير، كانت خلال أزمة السويس عندما أجبر الرئيس الأميركي “دوايت أيزنهاور” إسرائيل على الإنسحاب من السويس، وساعتها أدرك “بن جوريون” أن أي كونجرس قوي كما يقول “إدوارد تيفنن” في كتابه العمدة “اللوبي” قادر على تدمير إسرائيل بأكثر قوة وحدة وشدة من كافة الجيوش العربية مجتمعة. منذ ذلك الوقت وحتى الساعة عمدت إسرائيل إلى السيطرة على الولايات المتحدة عبر مسارين: المسار الأول ويمكننا أن نطلق عليه المسار العقائدي، حيث أحيت من جديد أفكار اليمين الأصولي الذي يرى في دولة إسرائيل وقيامها كمال وتمام النبؤات التوراتية، ولهذا فإن دعمها يضحى فرضًا لا نافلة إن ستقامت الاستعارة. هذا الفريق اليميني الأميركي تعزز حضوره بدرجة غير مسبوقة في أعقاب حرب الأيام الستة في العام 1967.. والسؤال: لماذا وما علاقة هذا بذاك؟ الشاهد أنه في تلك السنوات كانت الولايات المتحدة الأميركية تعيش واحدة من أسوا تجاربها العسكرية طوال حياتها، كانت واشنطن غارقة في المستنقع الفيتنامي، ويومها قال كبار المنظرين اليمينيين الأميركيين من السياسيين والمبشرين: إن روح الله ساند إسرائيل فانتصرت على العرب جميعا في ستة أيام، بينما أميركا فارقها روح الله ولهذا تتلقى الهزيمة تلو الأخرى في أحراش سايجون. منذ ذلك الوقت تعاظم الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل في عموم الداخل الأميركي، غير أن تل أبيب كان عليها أيضا تأمين مسارا ثانيا يضمن لها القبض على عملية صناعة القرار الأميركي ليأتي على مقاس تل أبيب قلبا وقالبا. المسار الثاني وفيه كان الكونجرس هو الهدف، الكونجرس بغرفتيه العليا أي مجلس الشيوخ والصغرى أي مجلس النواب، أما عملية السيطرة على هولاء وأولئك فقد كانت تمضي من خلال آليتين: الأولى: هي وسائل الإعلام التي تتبع إما يهودا أميركيين بشكل مباشر، أو يمينيين مسيحيين إنجيليين أمريكيين من أنصار الرؤى التوراتية التي تذهب في طريق أن الرب يبارك كل من يبارك إسرائيل ويلعن كل من يلعن إسرائيل. فيما الوسيلة الثانية هي السيطرة على فرص ترشح وفوز النواب والشيوخ من خلال ضمان التبرعات السخية للحملات الإنتخابية لجميعهم، وهنا يظهر دور رأس المال اليهودي في الداخل الأميركي، وكيف يقود الإتجاهات السياسية، وبهذا تضمن تل أبيب ألا يصدر من الكونجرس أي قرار يمكن أن يتسبب لإسرائيل في ضرر، فيلغي على سبيل المثال صفقات الأسلحة للدول العربية إذا كانت تؤثر على التفوق الإسرائيلي الشامل، أو توافق على البعض منها إن كانت تخدم المصالح الإستراتيجية لها. الذين يقفون حائرين أمام ترامب اليوم وهو يمضي في إثر “ليند بنز جونسون ” أحد أسوأ الرؤساء الأميركيين الذين تسببوا في أكبر كارثة للعالم العربي خلال حرب الأيام الستة يجب ألا يندهشوا من هذا الميل «الترامبي» الجارف ناحية إسرائيل، سيما وأن الرجل محمل بجمائل وشمائل لهذا اللوبي اليهودي وللتيار الأصولي اليميني في الداخل الأميركي، أولئك الذين دعموا حملته الانتخابية وقادوه إلى البيت الأبيض، وقد وعدهم بأن تكون القدس عاصمة لإسرائيل وها هو يفعل، بل يتمادى في فعلته موجها سهامه إلى سويداء القلب الفلسطيني بداية والعروبي الاسلإمي والمسيحي تاليا دون أدنى إكتراث. الذين قدر لهم متابعة لقاء نتانياهو ـ ترامب في البيت الأبيض قبل أن يلقي الأول خطابه في مؤتمر “إيباك” أدركوا أن ترامب سيد البيت الأبيض ربما هو من يحتاج إلى دعم نتانياهو ليظل في موقعه وموضعه وحتى لا تطيح به فضيحة روسيا ـ غيت التي تلتف حول عنقه يوما تلو الآخر. أما كيف لنتانياهو أن يفعل، فالجواب هو أن هناك أيدي وأذرعًا طوالًا لتل أبيب في الداخل الأميركي سواء في الكونجرس أو داخل المؤسسات الاستخباراتية الأميركية، وفي عموم مؤسسات البلاد. أظهر نتانياهو في الفترة الأخيرة التي يواجه فيها إتهامات جسيمة يمكن أن تقود إلى محاكمته قدرة عالية على المراوغة من خلال رسم صورة مغايرة له في واشنطن، صورة تظهره وكأنه صاحب اليد العليا والكلمة المسموعة التي لا تصد ولا ترد. هل هذا هو واقع حال أميركا؟.. وهل سيستمر الأمر على هذا النحو طويلا؟.. أي أن تبقى إسرائيل هي السيدة المنفردة بقيادة السفينة الأميركية العملاقة حول العالم.. أم أن هناك متغيرات جديدة تجعل نتانياهو يسابق الريح لكي يتحصل على ما يعن له وما تقدر يداه على حمله قبل أن تتغير الأوضاع وتتبدل طباع الأميركيين جهة تل أبيب، ما يمكن أن تتأكد معه نبوءات البعض الذي يمضي إلى القول أن سهاما كثيرة ستوجه إلى قلب تل أبيب من واشنطن نفسها، ما يقودها إلى مستقبل مظلم وإلى إنحدار أوضاعها بعد أن تفقد ربيبها الأعلى وملاكها الحارس؟ الجواب المثير في المقال القادم بأمر الله .
مشاركة :