اليابان من وجهة نظر عربية:الذهب والعمر الخالد

  • 4/21/2018
  • 00:00
  • 28
  • 0
  • 0
news-picture

يبدأ الإنسان حياته العقلية في الجزء الثالث من الحمل، حيث يأخذ الجسم البشري في بدء تكامله، ليتطور المخ وتتزايد الخلايا العصبية، وتنمو حواسه كالسمع والبصر، وما إن يولد الطفل حتى تكون في عقله ستة وثمانين مليارا من الخلايا العصبية. ولتبدأ هذه الخلايا العصبية بالتطور والتميز في وظائفها المختلفة، من خلال التربية وانعكاسات البيئة والظروف التي تحيط به. ولتبدأ عملية مهمة في التسليك البيولوجي، حيث تتواصل كل واحدة من هذه الخلايا العصبية من خلال عشرة آلاف سلك عصبي لكل خلية بعضها بعضا، كما تتواصل مع باقي إحساسات الجسم وعضلاته. فليبدأ الإنسان الصغير في النمو والكبر، ولينتقل من دراسة الحضانة، والابتدائية، إلى الدراسة الثانوية، والتدريبية أو الأكاديمية، ومنها الى ظروف العمل وابداعاته، ومع تحدياته، ولينتهي بمرحلة جديدة في الحياة، وهي مرحلة التقاعد. ويعتبر البعض هذه الفترة، فترة التقاعد عن العمل الحياتي والتهيئة للموت، لتزيد فيها الصلوات، والأدعية، والزيارات الروحانية، والاستغفار، وعمل الخير، لتجنب دخول النار. بينما يعتبرها البعض الاخر، مرحلة التقاعد عن المسؤوليات المجتمعية، من مسؤوليات العمل وحتى مسؤوليات العائلة وتربية الأطفال، إلى مرحلة ولادة مسؤوليات جديدة، وهي مسؤولية الفرد عن نفسه، لتحقيق ذاته، وهواياته، وسعادته خلال هذه الفترة، ومن دون ضغوط من رب العمل، أو قيادة الاسرة، ليحاول الاستمتاع بباقي حياته كما يشاء، من خلال السفر، أو الرياضة، أو القراءة، أو الكتابة، أو تعلم هوايات جديدة، أو التفرغ للعمل التطوعي والخيري الذي يهواه ويعشقه. ويختلف تعامل شعوب العالم مع مرحلة التقاعد، فمثلا في اليابان يعتبر الشعب الياباني مرحلة التقاعد، مرحلة مهمة في الحياة، وخاصة أن الشعب الياباني يعيش بين عقدين، وحتى أربعة عقود من الزمن بعد مرحلة التقاعد. وتبدأ حياة الطفل عادة في اليابان قبل أن يولد هذا الطفل، حيث تقوم العائلة اليابانية بدراسة وتخطيط مستقبل هذا الطفل. ويعتبر تحديد اسم طفل المستقبل من أهم واجبات العائلة اليابانية، للاعتقاد أن اسم الطفل يقرر شخصية الطفل، ومستقبل حياته، بمراحلها المختلفة من الطفولة والشباب، وحتى الكهولة والشيخوخة. وتبدأ هذه الخطوة بشراء مجلد كبير عن روحانية فن اختيار الاسماء. وقبل الخوض في عملية اختيار الاسم نتذكر عزيزي القارئ أن الحضارة والثقافة اليابانية مرتبطة بقوة مع الحضارة الصينية. فقد انتقلت الكثير من مظاهر الحضارة الصينية إلى اليابان في النصف الأول من الألفية الأولى، وانتقلت معها الثقافة البوذية، من خلال شبه الجزيرة الكورية، بعد أن طورت وحدثت، وجمعت فيها الاخلاقيات الروحانية مع البراغماتيات الحياتية، كما استطاع اليابانيون تطوير لغتهم من خلال هذه الثقافة، حيث تضم الكتابة اليابانية رموز كلمات «الكانجي»، التي أخذت من اللغة الصينية، والتي تجمع رموز عدة خطوط صينية، وتعبر عن كلمات معينة، كما تضم اللغة اليابانية حروف «الكانا»، وتنقسم أبجدية الكانا إلى قسمين، «الهرغانا» و«الكاتاكانا». وحروف «الهرغانا» هي حروف لكتابة الكلمات القواعدية، مع بعض الكلمات اليابانية الأصل، بينما تستخدم حروف «الكاتكانا» للتعبير عن الكلمات الدخيلة من أصل غير ياباني، وخاصة كلمات اللغة الإنجليزية. وهناك ثلاث مراحل مهمة في عملية اختيار اسم الطفل الياباني، حيث تبدأ المرحلة الأولى بمحاولة تحديد الاسم، ولتبسيط فهم عملية اختيار الاسماء، نفترض بأن الاسم المختار هو اسم «رنا»، ويتكون لفظ هذا الاسم في اللغة اليابانية من جزئين، «ر» و«نا»، ولو رجعنا الى رموز كلمات الكانجي لوجدنا أن نطق الجزء «ر» من الاسم، له خمسة وعشرون رمزا، وتعبر كل واحدة منها عن صفات معينة في الشخص، كصفة الزهرة السحلبية (اوركيد)، أو صفة الجودة، أو صفة المتع، أو صفة الجمال. ويختار الوالدان إحدى هذه الصفات لطفل المستقبل، وبكلمة رمز الكانجي المناسبة، ولنفترض أنهما اختارا الجزء «ر» بمعنى زهرة السحلبية، ورمز «الكانجي» لهذه الكلمة مكون من تسعة عشر خطا. ولو رجعنا الى الجزء الثاني من كلمة اسم رنا أي «نا» لوجدنا أن هناك 84 رمزا «كانجي» لها، وتعبر كل منها عن صفات معينة، كصفة الجمال، أو صفة آلهة الجمال، أو صفة الكثرة. ولنفترض بأن الوالدين اختارا صفة الجمال، ورمز الكانجي لهذه الصفة مكون من 7 خطوط صينية. وتتعلق المرحلة الثانية بجمع عدد الخطوط التي تشكل رمز هذا الاسم، أي جمع خطوط رموز الكانجي للجزء «ر» من الاسم، والتي تعني زهرة السحلبية، والتي يتكون رمزها من 19 خطا صينيا، وجمعها مع خطوط جزء «نا»، والتي تعني الجميلة، والمكون رمز الكانجي لها من 7 خطوط صينية، ليكون المجموع 26 خطا. وترتبط المرحلة الثالثة بمراجعة الرقم 26 مع قائمة تربط هذه الارقام بالصفات التي قد يكتسبها الطفل بحسب عدد الخطوط. والجدير بالذكر أيضا أن الارقام مقسمة في الثقافة اليابانية الى أرقام سلبية وأرقام ايجابية، وهي مرتبطة بخمسة عناصر طبيعية، والعنصر الاساسي الأول هو الماء، وهو مادة مهمة للحياة على سطح الكرة الارضية، والماء تعبير عن حاجة الحياة الى الماء، لتعبر عن شخصية يحتاج إليها المجتمع في تقديم الطاقة للحياة للجميع، كما أن الماء الطبيعي يكون عادة باردا، لذلك تتميز هذه الشخصية بهدوء التفكير ورزانة السلوك. والعنصر الثاني هو الشجر، وهو رمز مهم للحياة، ويوفر الخشب اللازم لبناء السكن، وتوفير الطاقة والتغذية. والعنصر الثالث هو النار، التي تعد عنصرا ناتجا من طاقة الشمس، ومهما كعنصر طاقة في الطبخ والتدفئة وإنتاج مختلف انواع الطاقات الأخرى. والعنصر الرابع هو التربة، وهي مهمة للزرع، ومختلف انواع الحياة، أما العنصر الخامس فهو الذهب، والذي يعبر عن الديمومة، وطول العمر، والثراء، والتحمل لتحديات الحياة المعقدة، ومعالجتها، مع بريق الحياة السعيدة. ويشكل التوازن بين عناصر الطبيعة الخمسة سكون عالم الطبيعة، كما أن كل عنصر من عناصر الطبيعة مرتبط بمفهومي «اليو» و«إن» في الثقافة اليابانية، وتعبر «اليو» عن الايجابية، أي عن الشخصية الإيجابية المشعة كالشمس، والعقل الايجابي المتفتح، والشخصية الفعالة المؤثرة في المجتمع. بينما تعبر «إن» عن شخصية سلبية، وهي شخصية تشبه أشعة القمر، شخصية مخفية هادئة، وبتفكير سلبي متشائم للمستقبل، مع ضعف في التواصل الاجتماعي، مع التحفظ والانطواء. والجدير بالذكر أن كل شخصية طبيعية تحتاج الى الجمع بين العناصر السلبية والإيجابية، لخلق شخصية متزنة، فالعقل المتفتح الايجابي يحتاج في الوقت نفسه الى الهدوء والحذر من غدر الزمان. كما يعبر عن عناصر الطبيعة المختلفة في الثقافة اليابانية بأرقام سلبية أو إيجابية، فالاشجار لها رقم «1» كرقم إيجابي و«2» كرقم سلبي، والنار رقم «3» إيجابي، ورقم «4» سلبي، والتربة رقم «5» ايجابي ورقم «6» رقم سلبي، والذهب رقم «7» ايجابي ورقم «8» سلبي، بينما الماء رقم «9» ايجابي ورقم «0» سلبي. ولو رجعنا لاسم «رنا» المكون من 26 خطا صينيا، ليعني رقم «2» في الاسم بالخشب السلبي، ورقم «6» في الاسم بالتربة السلبية، لتكون شخصية اسم الطفل المختار شخصية مكونة من قاعدة كوكب الأرض وهي التربة، لتعبر عن شخصية صلبة القاعدة، مزروعة في تربة بشرية صالحة، وليعبر الرقم «2» عن الشجر، بمعنى أن هذه الشخصية القوية الصلبة محمية بنتاج الشجرة وهي الأخشاب، لضمان مستقبل منزل سعيد، محمي من كوارث الطبيعة من شمس قاسية، وبرد قارس، ونار محرقة. فباختصار يتوقع الأهل من اختيار اسم «رنا»، الذي يحتوي على 26 خطا صينيا، أن تكون شخصية هذا الطفل المستقبلية تجمع بين المواهب التالية: النجاح في قمة العمل، وبشخصية محبوبة، ولها شعبية كبيرة، ولديها قدرة إدارية واقتصادية متميزة، وتملك قلبا كبيرا، محبا لمساعدة الضعفاء، ومقاوما لشراسة الاقوياء، وهي شخصية صادقة، وذات شرف رفيع، وضمير نقي، بينما تجمع هذه الشخصية سلبيات تعرضها للغيرة والحسد، لذلك عليها أن تكون حذرة من الحظوظ السيئة المرافقة من المشاكسين. وحينما يولد الطفل، تأخذه العائلة اليابانية إلى ضريح «الشنتو»، وهي الديانة القديمة لليابان، للتبرك بوضع رداء أحمر حوله، ويعكس هذا الرداء الأحمر مفهوم تهيئة الطفل للتعامل مع تحديات الحياة المستقبلية بنجاح. وحينما يبلغ الكهل الخامسة والستين من عمره، وهو عمر مرحلة التقاعد عن مسؤوليات العمل في اليابان، يقوم الفرد بترتيب احتفالية يلبسه فيه اصدقاؤه رداء أحمر. ويعبر هذا اللون الأحمر، عن بدء مرحلة جديدة في الحياة، أي ولادة مرة ثانية، لمعالجة التحديات الجديدة بعد التقاعد. ويرجع رمز اللون الأحمر في اليابان الى الثقافة البوذية، حيث كانت تبنى الكثير من المعابد البوذية في أعالي الجبال، وتقوم الثيران بنقل الاخشاب من وسط الغابة إلى أعالي الجبال، وتتعرض هذه الثيران لتحديات كثيرة، وهي تتعامل مع الصعود الى مرتفعات شاهقة، وعلى ظهرها أوزان ثقيلة من الأخشاب، بل كان الكثير من الثيران تموت بسب الإرهاق، والثور الذي يصمد في هذه المهمة الصعبة يعتبر ثورا قويا وناجحا، ولذلك يعبر عن التعامل مع تحديات الحياة بنجاح في الثقافة اليابانية، بدمية خشبية حمراء اللون، ولها رأس ثور متحرك. فقد أصبحت ثقافة التقاعد الإيجابية مفهوما مهما في مجتمعات اليوم، بعد أن ارتفع متوسط العمر في بعض الدول الى الثمانين عاما، بل يتوقع العلماء البريطانيون أن الطفل البريطاني الذي يولد اليوم أن يعيش مائة سنة. ومع أن متوسط عمر الفرد يصل الى أربعة والثمانين عاما في اليابان، لكن هناك من الملايين الذين يعيشون فوق المائة عام، كما أنه من المتوقع أن تتجاوز بعض المناطق الآسيوية متوسط العمر إلى 95 مع قبول عام 2050 مثل تايوان، وهونج كونج، واليابان. وطبعا، مع زيادة متوسط العمر ستزداد كلفة الرعاية الصحية، فلو فرضنا أن علاج الفرد في الثلاثينيات من العمر يكلف 100%، فتزداد الكلفة بعد سن 65 إلى 900%، اي الى تسعة أضعاف. وطبعا تترافق كلفة هذه الرعاية مع كلفة الرعاية الاجتماعية، من دون أن يقدم المتقاعد أي عمل منتظم للمجتمع، وبذلك تزيد الكلفة المجتمعية بشكل كبير مع زيادة عدد المتقاعدين. ويبقى السؤال كيف يمكن أن يهيئ المجتمع الفرد المتقاعد لأن يولد من جديد، لكي يلعب دورا في سعادة المجتمع وازدهاره؟ وقد تبدأ هذه الثقافة مع بدء نمو الطفل، بل يجب أن تبدأ مع العملية التعليمية، بمعرفة الفرد بأنه من واجبه أن يعيش نمط حياة صحية، من توازن الأكل الصحي، القليل في السكريات والشحوم واللحوم الحمراء، مع وجبات تحتوي على الخضراوات والسلطات واللحوم البيضاء. ولنتذكر أن ممارسة الرياضة مهمة، لأنها تحرق السعرات الحرارية الاضافية، وتزيد من زيادة الجزء الصحي من الشحوم البروتينية في الدم، والتي تحمي من انسداد الشرايين، لتقي من الجلطة القلبية، والسكتة الدماغية، كما بينت الأبحاث الطبية أن تقلص العضلات بالرياضة تزيد من إفراز هرمون، يشبه هرمون النمو، المسؤول عن نمو الطفل. وزيادة هرمون النمو في الجسم يحافظ على الشباب ويؤخر الشيخوخة وأمراضها، كما أن القلق والضغوط الحياتية هي من أخطر أسباب الشيخوخة، حيث تزيد من إفراز هرمونات الأسترويد، والادرينالين. ليؤدي هرمون الأدرينالين الى زيادة تقلص عضلات الشرايين، ليسبب زيادة الضغط فيها، كما تؤدي هرمونات الاسترويد الى زيادة حرق المواد البروتينية التي تتركز في العضلات، كما تزيد من تجمع سوائل الجسم لحبسها ملح الصوديوم، وهو ما يؤدي الى زيادة ضغط الشرايين، وبالتالي يؤدي إلى تلف الكثير من شرايين القلب الكلية والمخ، ليسبب انفجار الشرايين وانسدادها، كما يؤدي زيادة الادرينالين الى زيادة مقاومة عمل الانسولين، ما قد يسبب مرض السكري. ولنتذكر أيضا أن التدخين، وتناول المشروبات الكحولية، تبكر الشيخوخة، وتزيد من نسب الأمراض السرطانية، كما أن التزمُّت والتطرف، والصراعات الآيديولوجية والسياسية تبكر الشيخوخة وتقصر العمر، بينما يؤخر التناغم والتعاون والتآلف المجتمعي الشيخوخة، وتطول الابتسامة والسعادة الشبابية. ولنا لقاء.

مشاركة :