منذ الصغر وأنا اسمع تكرار كلمة الأخلاق السامية، وأهميتها في الدين ودخول الجنة، ومع ذلك لاحظت تباينا كبيرا في مجتمعاتنا العربية بين القول والفعل. وقد حيرني ذلك لأطرح الأسئلة التالية: ما الذي يؤدي في المجتمعات العربية للاختلاف الشاسع بين القول والفعل في مسألة الأخلاق المجتمعية. أليست الفضيلة والأخلاق الحسنة هي هدف هداية الأديان؟ ألا يوفر الضمير المطمئن الصحة والسعادة؟ وما هو الضمير بيولوجيا؟ وهل يحتاج الضمير الى العقل الجميل؟ وهل تطيل الأخلاق والعقل الجميل العمر البيولوجي؟ وما هي الأخلاق وما هو العقل الجميل؟ قمت ببحث في القواميس العربية لكي أحاول أن أتفهم مفهوم كلمة الأخلاق في مجتمعاتنا العربية، لوضع معيار لقيمة هذا التعبير، وقد يمكن بعدها قياس السلوك البشري بالمثاليات الأخلاقية. والذي يحير في مجتمعاتنا العربية حينما تطرح المسؤوليات الأخلاقية للإنسان عبارات متناقضة كمثل: «هذا مثالي أكثر من اللازم»، أو «هذا غبي لا يعرف كيف يستغل الفرص»، أو قد تسمع عبارة أخرى: «والله هذا انسان عبقري عرف يسلك نفسه ويجمع له كم مليون». والمشكلة الأعظم أن هذه العقدة ليست مقصورة على بعض الفئات الدنيا في مجتمعاتنا، بل أيضا تبرز في سلوك عناصر مهنية، بل قد تكون ذا مهن إنسانية فاضلة. تعرف القواميس العربية الأخلاق بأنها شكل من أشكال الوعي الإنساني، وتعبر عن مجموعة من القيم والمبادئ، التي تحرك الأشخاص والشعوب، كالعدل، والحرية، والمساواة، بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب، لتكون سندا قانونيا تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين. وتجمع الأخلاق بين السجايا والطباع، والأحوال الباطنية، التي تدرك بالبصيرة والغريزة. ويعتبر الدين بشكل عام سندا للأخلاق، والأخلاق هي مفهوم للقواعد الأخلاقية التي تضع معايير للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه، أو يعتبرها واجبات تتم بداخلها أعماله، أو هي محاولة لإزالة البعد المعنوي لعلم الأخلاق وجعله عنصرا مكيفا، أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العملي والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية ومجردة. والكلمة الانكليزية للأخلاق مستخلصة من الكلمة اليونانية إيثية، أي العادة، لتكون الأخلاق طقما من المعتقدات أو المثاليات الموجهة، والتي تتخلل الفرد أو مجموعة من الناس في المجتمع. وهنا قد نحتاج الى أن نفرق بين المسؤولية القانونية والأخلاقية باختلاف أبعادهما، فالمسؤولية القانونية تتحدد بتشريعات تكون أمام شخص أو قانون، لكن المسؤولية الأخلاقية فهي أوسع وأشمل من دائرة القانون، لأنها تتعلق بعلاقة الإنسان بخالقه، وبنفسه، وبغيره. فهي المسؤولية الذاتية للإنسان أمام ربه أو ضميره، أما دائرة القانون فمقصورة على سلوك الإنسان نحو غيره، وتتغير حسب القانون المعمول به، وتنفذها سلطة خارجية من قضاة، رجال أمن، ونيابة، وسجون. أما المسؤولية الأخلاقية فهي ثابتة لا تتغير، وتمارسها قوة ذاتية، تتعلق بضمير الإنسان، الذي هو سلطته الأولى. لنحاول عزيزي القارئ أن نتوسع في فهم قضية الأخلاق والضمير والعقل بشكلها البيولوجي. فكما ذكرنا سابقا بأن جسم الكائن البشري مكون من أعضاء مختلفة كالأطراف بالجلد والعضلات والعظام، والبطن بما يحتويه من كبد وأمعاء وكلية ومثانة، وصدر بما فيه من رئة وقلب وشرايين، ورأس بما فيه من مخ ومخيخ وبصلة شوكية. وتتكون جميع هذه الأعضاء من وحدات ميكروسكوبية صغيرة تسمى بالخلايا. والخلية هي مصنع بيولوجي يقوم بإنتاج ما يحتاج إليه الجسم من طاقة ومواد بروتينية، لبناء أنسجة، وإفراز هرمونات تنظم وظائف أعضاء الجسم المختلفة. والجدير بالذكر أن العضو الأساسي الذي ينظم وظائف الجسم البشري بأعضائه المختلفة هو العقل البشري. وقد ميز الخالق، جل شأنه، العقل البشري بجهاز عصبي معقد التركيب لم تستطع حتى الآن العلوم البيولوجية أن تكشف عن أسراره المعقدة. ولكن من المعروف أن هناك عدة مراكز في المخ للحركة والحس والسمع والبصر والتذوق، بالإضافة لمراكز ذكاء متشابكة ومعقدة. ومن أهم مراكز الذكاء في العقل البشري مركز الذكاء الذهني الذي من خلاله نقوم بعملية جمع المعلومات ورصدها وتحليلها لتحديد قرارات رصينة. كما أن هناك مركز للذكاء الاجتماعي نستطيع من خلاله أن نتواصل مع أقراننا بطريقة تعامل مؤدبة ولبقة، وذكاء عاطفي نستطيع من خلاله أن نسيطر على عواطفنا الحادة، ونوجهها بشكل إيجابي للتعاون مع الآخرين لبناء المجتمع واستمرارية تطويره. وبالإضافة لكل ذلك هناك مركز للذكاء الأخلاقي والروحي، والمعروف عادة بالضمير البشري، والذي يحدد تفاصيل فضائل الأخلاق الإنسانية والتي تميز الإنسان عن باقي الحيوانات الأليفة والمتوحشة. ويصر هذا الضمير على أن يكون سلوكنا أخلاقيا سويا صادقا وفاضلا. وحينما يتعارض سلوكنا البشري مع المعايير الأخلاقية لمركز الذكاء الأخلاقي الروحي، يبدأ صراع مرير في داخل العقل البشري بين الجزء المسؤول عن الذكاء الذهني ضد الجزء المسؤول عن الذكاء الأخلاقي الروحي. وينتج من ذلك نشاط عصبي هورموني، يثير بشكل حاد المركز العصبي المسمى بـ «الهيبو ثالاماس». ويسبب نشاط «الهيبو ثالاماس» زيادة الإفرازات الهرمونية من الغدة النخامية الموجودة في أسفل المخ، ليؤدي ذلك لتنشيط الغدد الهرمونية الأخرى، والتي من أهمها الغدة الدرقية، التي تفرز بغزارة هرمون الثيروكسين، ليزيد ذلك من كمية انتاج الطاقة، مع زيادة نشاط الأعصاب، والذي يترافق بالقلق ورعشة اليد. كما يزاد نشاط الغدة الكظرية، ليرتفع افراز هرمون الأدرينالين، الذي يقلص الشرايين ويؤدي لزيادة الضغط. كما يزداد إفراز هرمونات الاستيرويد التي تزيد من كمية الأملاح في الدم فترفع الضغط، كما تزيد من تلف بروتينات العضلات والمخ ليهن الجسم والعقل، كما تزيد من تكون الكوليسترول الداخلي، فترتفع نسبته في الدم، ليترسب على الجدار الداخلي للشرايين، مما يؤدي لانسدادها، فينقص الدم في أعضاء الجسم الأساسية، ليؤدي ذلك الى الجلطة القلبية، والسكتة الدماغية، وتموت الأطراف السفلية، واحتشاء الأمعاء، ولينقص العمر البيولوجي. لذلك تحتاج الصحة وطيلة العمر الى عقل جميل يحافظ صاحبه على قرارات تحليلية مدروسة، ويتعامل مع أقرانه بأدب وخلق ولطف، ويسيطر على عواطفه الحادة ليوجهها بأسلوب حكيم ظريف نحو قرارات ايجابية متزنة. كما يتصف العقل الجميل بخلق لطيف وأخلاق حميدة، تقرب الإنسان من أفراد عائلته ومجتمعه، وذلك بتعامله مع التحديات المجتمعية بسلوك حكيم صادق وفاضل. والجدير بالذكر هنا أيضا أن «الذكاء الجسمي» يوجه الإنسان لكي يتناول غذاء صحيا، ويمارس رياضة مستمرة. وبينما عانت شعوب العالم من الأمراض الوبائية في القرن العشرين، بدأت تنتشر الأمراض المزمنة اللا وبائية (السكري والضغط والكوليسترول والسرطان) في القرن الواحد والعشرين، وقد تبلور مفهوم جديد لهذه الأمراض بربطها بتغيرات نمط الحياة الجديدة، والصراع المستمر بين الذكاء الذهني والذكاء الأخلاقي الروحي، والذي يؤدي الى صراع شديد بين العقل والضمير، ليؤدي الى زيادة القلق، بنتائجه المدمرة على الجسم، مما يؤدي الى شيخوخة الخلايا المبكر، مع قصر العمر الزمني وما يرافقه من أمراض مزمنة لا وبائية. وقد نحتاج هنا الى التفريق بين العمر الزمني والعمر البيولوجي، فيعبر مفهوم العمر الزمني عن السنوات التي استهلكت من عمر الإنسان، بينما يمثل العمر البيولوجي مدى كفاءة الخلية في أداء وظائفها بالجسم البشري. ويعتمد مدى نشاط وظائف هذه الأعضاء على كفاءة أداء الخلايا في الاستفادة من الماء والهواء والغذاء الذي نستهلكه، والمرتبط أيضا بآداب سلوك حياتنا في التحدث والأكل والشرب والتدخين وشرب الكحوليات والرياضة والتعرض للضغوط الحياتية والصراع بين العقل والضمير، وحينما يبدأ اضطراب أداء وظائف هذه الخلايا تبدأ وظيفيا الشيخوخة البيولوجية، بضعف وظائف أعضاء الجسم من العقل إلى القلب إلى الرئة والكلية والأمعاء والأطراف المختلفة. يقول السيد بوب ديلمونتيك رجل الرياضة الغربي، والذي يتجاوز الخمسة والثمانين من العمر، والذي يبدو كهلا رياضيا في الأربعينات في عمره البيولوجي: «لدي عقل سليم، مترافق بتغذية صحية، ورياضة دائمة». ويعتقد بوب بأن: «العقل البشري لا يشيخ، ولكنه يضمر بسبب عدم الاستخدام. ويبدأ الموت في داخلنا حينما نتوقف عن استخدام عقولنا وأذهاننا». وينصح بوب بأن يكون: «للإنسان هدف أخلاقي سامي في الحياة، ويبذل قصارى جهده لتحقيقه، وبذلك يبعد الشيخوخة وأمراضها». فعزيزي القارئ، العقل الجميل يحقق العمر البيولوجي الطويل والسعيد، ولذلك تجد الشعب الياباني يعيش عمرا بيولوجيا طويلا، فالحياة منظمة في اليابان، فالتنظيم يقلل الوقائع الطارئة وما يرافقها من قلق وضغوط. كما أن هناك التزاما صارما بأخلاقيات سلوك المجتمع، ليقلل ذلك الصراع الداخلي الحاد بين العقل والضمير، في الوقت الذي تكون فيه الوجبات اليابانية صغيرة الحجم وقليلة الدسم والمشروبات معظمها خالية من السكر، بل تعتمد على الشاي الأخضر. كما ان الشعب الياباني يستخدم القطار عادة، لذلك عليه المشي ما يقارب ساعة واحدة في اليوم، كما ان هناك نظام يفرض على كل ياباني كهل مراجعة الطبيب حينما يزيد عرض خصره أكثر من 84 سنتمتر، كما ان المواطن يقوم بفحص دوري سنويا حينما يتجاوز سن الكهولة. ولنا لقاء.
مشاركة :