ليسمح عزيزي القارئ أولا أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان لجلالة امبراطور اليابان، والحكومة اليابانية، بقيادة رئيس وزراء الياباني سعادة السيد شنزو آبيه، ووزير خارجيتها سعادة السيد تارو كونو، بل وشعب اليابان بأكمله على منحي خلال الأسبوع الماضي وسام الشمس المشرقة (كيوكوجيتسو شو)، النجمة الذهبية والفضية. فقد كان لي عظيم الشرف أن أتسلم هذا الوسام في القصر الامبراطوري في احتفالية أمام جلالة الامبراطور اكيهيتو، مع خيرة من مبدعي اليابان المتميزين. كما أريد أن اتقدم بجزيل الشكر والعرفان لسيدي صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين، حفظه الله ورعاه، أولا، لإعطائي فرصة شرف تمثيل بلادي، كأول سفير لمملكة البحرين في اليابان، خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية، وثانيا، منح جلالته لي وسام الدرجة الأولى لمملكة البحرين في عام 2005، بعد انتهاء مهمتي وزيرا للصحة. الجدير بالذكر أن نظام وسام الاستحقاق الإمبراطوري أدخل إلى اليابان في عام 1875، في عصر التنوير، عصر الإمبراطور «ميجي»، وباسم وسام الإمبراطور ميجي، الذي طور تسميته بعد الحرب إلى وسام الشمس المشرقة، ويعتبر الإمبراطور ميجي أحد أعظم أباطرة اليابان. لقد كانت اليابان تعيش منذ القرن الثالث عشر تحت نظام إقطاعي حازم، يجمع بين ديوان إمبراطوري منغلق، الإمبراطور «الإلهي» في قصره، وليس له علاقة بأمور الحكم، بل لا يخرج من قصره، ومحرم أن يراه المواطنون، وبين حكم عسكري يديره «الشوجن» (الحاكم العسكري)، بمساعدة «الديموس» (لوردات الحرب) تتحكم في المناطق (250 ديمون) المختلفة من البلاد، مع مساعدة عساكر الساموراي، الذين كانت لهم قوة وسلطة وأخلاقيات محددة، ومميزات مادية سخية في المجتمع. فقد تطورت اليابان واصبحت دولة المؤسسات منذ القرن السابع عشر مع تطوير حكم شوجن الكاواجاوا، وقد ثار والد إمبراطور «ميجي»، الامبراطور «كومي» على النظام العسكري الاقطاعي في البلاد، بعد ان توج امبراطور لليابان في عام 1848، وحاول أن يبرز قوة القصر الامبراطوري لإصلاحه، ولكنه توفي من اختلاطات مرض الجدري، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ما أدى إلى أن يصبح ابنه الامبراطور «ميجي» امبراطور اليابان المائة والاثنين والعشرين في عام 1867، وهو في الخامسة عشرة من عمره. لقد واجه الإمبراطور «ميجي»، وهو في سن المراهقة تحديات كبيرة، تجمع بين تكملة دراسته (دراسة اللغة اليابانية والإنجليزية والأخلاقيات والقوانين الكونفوشيسية والأدب والثقافة والتاريخ الياباني، والعلوم والرياضيات)، وبين تكملة الإصلاحات التي بدأها والده. وكانت من أكبر تحدياته الخارجية هي انفتاح اليابان المنغلقة على العالم، مع التعامل مع أطماع دول الغرب في اليابان، وفي مرحلة استعمارية غربية صعبة من التاريخ، مع حل مشاكل الحدود مع الصين وروسيا، والخوف من غزو الغرب لكوريا الضعيفة، والذي كان خطرا على أمن اليابان. أما تحديات الحكم الداخلية فكانت معقدة جدا، وتتعلق بتطوير النظام العسكري الدكتاتوري الاقطاعي، الى نظام رأسمالي غربي متقدم، بصبغة وثقافة يابانية متطورة، كما كان عليه أن ينقل اليابان من يابان العصور الوسطى إلى يابان التنوير والحداثة المعاصرة، بالتعليم والتدريب وبالأخلاقيات البوشيدية. وقد كانت من أهم التحديات التي واجهها إمبراطور ميجي في السنة الأولى من حكمه، فتح ميناء «هايجو» للأجانب، وحل مشكلة الجزر الشمالية مع روسيا، وإخماد الثورة ضد الدولة في منطقة «جوشو»، وإقناع الشعب الياباني بضرورة الانفتاح على الغرب مع الاستفادة من خبراته العلمية والتكنولوجية وتجربته الإصلاحية الديمقراطية في الحكم. وبعد حوارات ذكية مع مستشاريه ولوردات الأقاليم، ومع قوة شخصيته العاقلة والصبورة والمتواضعة البسيطة والحكيمة والرزينة والحازمة والكريمة، استطاع أن ينجح في كسب ثقة الشعب، وإخماد الثورة في الشمال بعلاج أسبابها، كما اتفق مع روسيا على حل مرضٍ لجزيرة ساخلين الشمالية، وفتح بعض موانئ البلاد للأجانب، وسمح لهم بالمتاجرة فيها، كما بدأ تهيئة الشعب لثورة تعليمية كبيرة، وإصلاحات ديمقراطية مهمة. وقد برزت حكمته وهو صغير حتى في الحوادث الصغيرة المحرجة، فمثلا كان دائما يستشار في قضايا مختلفة من رجال الدولة، وبدلا من أن يطرح الحلول، يصر على عرض هذه القضايا للنقاش المفتوح بين مستشاريه وممثلي الشعب، ليدفعهم لإيجاد الحلول المناسبة، من دون أن يطرح حلولا بنفسه، لإيمانه بأن من يعتقد بأنه اكتشف الحل، سيكون أول من سيدافع عنه، ويحاول أن ينفذه. فمثلا، في صباح يوم 14 يوليو من عام 1867، في السنة الأولى من حكمه، وهو في الخامسة عشرة من عمره، وبعد ان بدأ الأجانب الاستقرار في اليابان، اكتشفت واعتقلت وسجنت إدارة مدينة ناجازاكي مسيحيا في الثامنة والستين من عمره، حيث كان اعتناق المسيحية ممنوعا في اليابان، ومنذ مائتين وخمسين عاما، وليبقى المسيحيون الذين كان معظمهم من الفلاحين وصيادي الأسماك، مختفين عن بطش القانون. وقد كان هذا الموضوع حساسا مع دول الغرب المسيحي، إذ كان الإمبراطور ميجي يحاول كسب ثقتهم، وقد استطاع بحكمته الاستفادة من هذه الحادثة، لمناقشة عامة لموضوع حرية اعتناق الأديان، لينتهي بوضع قانون يسمح بممارسة الأجانب دياناتهم المختلفة في اليابان وبحرية. وفي عام 1881 بدأت المطالبة بدستور وبرلمان وطني للبلاد، بعد أن هيأ الامبراطور ميجي منذ تسلمه الحكم وبذكاء، شعب اليابان لهذه الخطوة، للتخلص من الحكم العسكري الدكتاتوري للشوجن، وهو في مقتبل العشرينات من عمره. فبعد أن حس الحاكم العسكري بالضغوط الشعبية، ومن جهات مختلفة في الدولة، وبعد أن أرسل مستشار الامبراطور ميجي، ياماجاتا اريتومو، في شهر ديسمبر من عام 1869 رسالة الى رئيس الوزراء يشرح تصوره حول الحكم الدستوري، وخاصة بعد استياء عامة الشعب من الحكومة، بسبب ارتفاع نسب البطالة والتباطؤ الاقتصادي وتدهور القيم والأخلاق، ما أدى الى بروز حركات المطالبة بالحرية والحكم الدستوري، ليصبح من الضرورة الملحة إرجاع ثقة الشعب بالحكومة، وذلك باصطلاح النظام التشريعي والقضائي والحكومي، وإلا ستندلع نار ثورة أخرى في الشمال. ومع أن المستشار أكد أن هذه الإصلاحات ستحتاج وقتا، لكن يمكن البدء أولا بوضع القواعد الأساسية لها، كما أكد ضرورة عدم الإضرار بمسؤوليات الديوان الإمبراطوري في الدستور الجديد. وقد بدأت أولا عملية الإصلاح على مستوى المحافظات، حيث انتخبت مجالسها البلدية، ليؤكد المستشار ضرورة اختيار خيرة العقول المبدعة في هذه المجالس للبرلمان الجديد. وقد دعم رئيس الحكومة هذه التصورات، وأيدها الامبراطور بقوة، كما حذر أحد المقربين للإمبراطور السيد «اتو» خوفه من تأثير الثورة الفرنسية على الشعب، بل يجب الاستفادة منها بذكاء، للمحافظة على الاستقرار والحكم الإمبراطوري، كما يجب أن تكون خطة تأسيس البرلمان مدروسة بدقة، للمحافظة على الاستقرار في البلاد، واقترح أن يتشكل البرلمان من مجلسين على النمط الأوروبي، بأن يكون المجلس «الأعلى» مكونا من مائة شخص يختارون من خيرة النبلاء وعساكر الساموراي، لكي يضمن ولاءهم، وتكون مسؤوليته دعم الديوان الامبراطوري والمحافظة على الإرث والثقافة اليابانية، بينما سيتشكل المجلس «السفلي» من مشرفين، ينتخبون من مجالس المحافظات، وتكون مسؤولياته محددة بالأمور المالية. وأعتقد «ايتو» أن البرلمان سيخلق الاستقرار في البلاد، بينما سيقي المجلس الأعلى المجلس السفلي من التطرف والانحراف. الجدير بالذكر أن الامبراطور عاش حزن المرض في حياته، حيث ان والده توفي في منتصف الثلاثينيات من مرض الجدري، بينما توفي ستة من أطفاله السبعة في السنة الأولى من حياتهم بسبب اختلاطات الأمراض الانتانية، والذي اعتقد أطباء القصر الامبراطوري انه نتيجة حرارة ورطوبة الجو في الصيف في العاصمة طوكيو، لذلك اقترح أطباء القصر ضرورة أن يبقى الأطفال خارج العاصمة، بعد أن بنى لهم قصرا على بحيرة هاكونه، كما أصيب الامبراطور بمرض السكري بل وتوفي من اختلاطاته. وقد بدأت تتطور الأمور التنفيذية، ليبدأ للمرة الأولى في تاريخ اليابان أن يكون الجيش تحت إمرة الإمبراطور، ليس تحت سلطة الحاكم العسكري، وقد أكد الإمبراطور ضرورة أن يكون ولاء العسكر للوطن. وبهذه الأفكار كتب وطور الدستور الياباني المعاصر، بعد زيارة وفود يابانية لدول الغرب للاطلاع على دساتيرها، وبعد أن وجد المستشارون أن التجربة البريطانية والروسية والألمانية من خيرة التجارب للاستفادة منها في اليابان. وقد صدرت النسخة الكاملة للدستور المعاصر في عام 1889، وبدون عرضه على أي استفتاء عام. الجدير بالذكر أنه تم تطبيق هذا الدستور منذ عام 1890 حتى تحولت اليابان من دولة إقطاعية فقيرة متخلفة إلى دولة صناعية تكنولوجية عظمى، بل ولتنتصر على دولة أوروبية عظمى في الحرب الروسية اليابانية لعامي 1904-1905، ولتنتصر على دولة آسيوية عظمى في الحرب الصينية اليابانية الأولى 1894-1895، ولتتحول الى قوة عالمية عظمى تنافس دول الغرب الاستعمارية في مستعمراتها، ولتنتهي بدخول لعبة البوكر الاستعمارية، لتنتهي بصراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى دمار الحرب العالمية الثانية. وقد قام الجنرال مكارثر ببعض التعديلات على هذا الدستور، وذلك بالفرض على اليابان التعامل مع خلافاتها الدولية بطريقة سلمية فقط، مع إضافة أن يكون المجلس الاستشاري والنيابي منتخبين، مع زيادة حقوق المرأة. وليستمر هذا الدستور حتى اليوم، برغبة الشعب الياباني من دون تغيير، بعد أن أصبحت اليابان ثاني وثالث اقتصاد عالمي. ولم يكن سر نجاح اليابان تفاصيل الدستور بذاته، ولكن أخلاقيات المواطن الياباني في الالتزام به وتطبيق بنوده، والتي أصر عليها الإمبراطور ميجي، لتصبح اليابان اليوم من أكثر الدول سلما وأمنا وأخلاقية وتنمية. الجدير بالذكر أن الإمبراطور ميجي توفي عام 1912 نتيجة اختلاطات مرض السكري، بعد أن طور اليابان من دولة فقيرة متخلفة ومنعزلة إلى دولة عظمى معاصرة، خلال الخمسة والأربعين سنة من حكمه. ولنا لقاء.
مشاركة :