العادات الاجتماعية والمرأة ألقينا بالأمس بصيصا من الضوء على الصورة العامة للحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، واليوم سنواصل ما انقطع من حديث، وسنتحدث عن المرأة وشأنها قبل الإسلام. وفي كتابه (دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم) يتحدث الباحث محمد رواس قلعة جي عن الوضع الاجتماعي في شبه الجزيرة العربية فيشير إلى أن الحياة في المجتمع البدوي اتسم بالعديد من العادات بعضها حسن محمود، حافظ عليه الإسلام وشجَّع عليه، كالكرم والنجدة وإغاثة الملهوف، وبعضها الآخر قبيح نهى عنه الشرع وحاربه، كوأد البنات خوفًا من العار. تلك هي الحياة الاجتماعية المزرية، التي صوّرها لنا القرآن الكريم عندما تحدث عن انعكاسات الفقر على السكان، فالفقر والمخافة منه هو الذي دفع بعضهم إلى قتل أولادهم والتخلص منهم، مخافة اشتداد الأزمة المادية. لقد صور القرآن الكريم هذه المشكلة الاجتماعية في قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) الإسراء – 31، عكست الآية أبعاد المأساة الاقتصادية والوضع الاجتماعي القبلي الجاهلي المتردي. فالفقر والقتل مظهر من مظاهر غياب النظام والقانون والاستقرار السياسيين بالمنطقة. ويذكّر القرآن الناس بمناقب الدعوة التي وفرت للقرشيين بمكة، وخاصة النظام والأمن في الوقت الذي ازداد فيه العنف في باقي الأقاليم بسبب الحروب المتزايدة، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون) العنكبوت - 67. ومن العادات الاجتماعية السلبية التي ذكرها القرآن الكريم في العديد من المواقع، ظاهرة انتهاك الحقوق الطبيعية للأنثى. فالأنثى كانت تعاني من الحيف المجتمعي، وتواجه البؤس والفقر والاستغلال البشع بشتى أنواعه، فهي لا تتمتع بحقوقها ولا تتوافر لها شروط التمتع بالكرامة، وهي في عرف المجتمع العربي الجاهلي ملك للرجل، وتورث كما تورث الأموال، فقد كان الأبناء يرثون زوجات الآباء ويتزوجونهن؛ صورة غير حضارية توضح التخلف المعمق في المجتمع، وفي المقابل فإن الواقع والتاريخ وسنة الله في الكون تثبت أن المرأة تشارك الرجل في صناعة الحياة، وتحقيق التقدم والتطور، وهو الشأن الذي أدركته الدولة الإسلامية، فأناط بالمرأة مسؤولياتها التربوية والتعليمية والسياسية والاجتماعية، ومسؤولياتها البيتية والوطنية. ولم تسلم الطفلة الصغيرة من الذهنية المتخلفة للعربي المتشبع بالثقافة الجاهلية، كان المواليد الجدد معرضين للقتل، إما بسبب الظروف الاقتصادية إذا كان الأمر يتعلق بالذكور كما ذكر من قبل، أو بسبب الجنس. فالإناث يواجهن القتل لأنهن إناث، يذكُر القرآن الكريم ذلك المشهد المأساوي ويجرم فاعله في قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) النحل – الآيات 58 و59. وفي قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) التكوير - الآيات 8-9. والأنثى في الصورة النمطية للمجتمع مجلبة للعار، بحجة أن المنطقة تعرف ظروفًا أمنية استثنائية بسبب الحروب المتواصلة، وأن النساء معرضات للسبي، والسبي يعني الفضيحة والشماتة والعار للقبيلة التي ينتمين إليها. أمام هذا الوضع كان الرجل العربي -في بعض المرات وليس دائمًا- إن ولدت له أنثى شعر بالقلق الكبير وسيطر عليه الهمّ والحزن لما يمكن أن يلحق بالقبيلة من العار بسبب السبي، ويكون هو المسؤول المباشر عن ذلك إذا كانت الأسيرة ابنته، فهو يرى أن الحل العاجل هو اللجوء إلى قتلها أو دفنها حيّة، أو في أحسن الأحوال يتقبّلها على مضض وكراهية، فكانت الأنثى ضحية هذه العقلية الظلامية والعادات الآبائية المتخلفة. ولقد تسبب المجتمع في الحط من مستوى المرأة أكثر فأكثر، فحولها إلى أداة لإشباع الرغبات الجنسية، بالطرق الشرعية وغير الشرعية. ويذكر أنه وجدت بشبه جزيرة العرب وبقرية مكة -آنذاك- بيوت خاصة بالبغايا. قال الطبري: «كانت البغايا تتخذ حانوتًا عليه راية، إعلامًا بأنها بغي». يضع هؤلاء النساء المحترفات لهذه المهنة أعلامًا حمراء، لإعلام الزبائن من الرجال الوافدين على القرية. ويبدو أن هذه الحرفة كانت مدرة للأرباح بحيث كان يمتهنها بعض الأغنياء المتاجرين في الجواري، يشتري الجواري ويسخرهن للعمل بالجنس لكسب المال من هذه الممارسة. أما الزنا عند الرجال فهو من أمارات الرجولة عند الجاهليين، كانوا يذهبون إلى ذوات الرايات ويتصلون بهن في مقابل أجر، وكن من الإماء، كانوا يمارسونه فلا يرونه عيبًا، وكان عندهم عادة مألوفة، ولقد اعتبر عبدالكريم خليل أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة كانت طقسًا يوميا يشغل مساحة واسعة من حياة العرب، وأعزى الانشغال بالجنس إلى عوامل منها غياب الأنشطة الثقافية والفنية التي تثري الوجدان وتصقله ويفرغ فيها الفرد مكبوتاته، بالإضافة إلى حرارة الطقس وطلاقته وامتيازه بقدر من الجفاف مما يثير الشهوة. بالإضافة إلى ما ذكر عن الزنا فقد تعددت أشكال الزواج الذي تستغل فيه الزوجة، ويفسد به المجتمع منها: نكاح الضيزن، والمتعة، والبدل، والشغار، والاستبضاع. وهكذا تتجسد أمامنا طبيعة ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف، تلك الطبيعة التي وصفها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة بقوله: «أيها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وألا نُشرك به شيئًا، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام». ومن باب الموضوعية والإنصاف فيمكننا أن نقول إنه على الرغم من تلك الوضعية التي كانت تعيش فيها المرأة العربية آنذاك كانت هناك العديد من النماذج المشرقة المشرفة، مثل: آمنة بنت وهب أم نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهي سيدة شريفة عفيفة تنتمي إلى تلك البيئة، والتاجرة الشهيرة خديجة بنت خويلد، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي كانت تمارس النشاط التجاري بكل كفاءة ومهنية، وهند بنت عتبة وغيرهن الكثيرات ممن كن يتمتعن بكل الحقوق المدنية، وقد ساهمن في الحياة السياسية والاقتصادية بفعالية، وهن خريجات تلك البيئة. وربما يمكننا أن نقول إن هذا المجتمع لم يكن يعامل المرأة بقاعدة واحدة، أن وضعية المرأة -ربما- تتغير من قبيلة إلى أخرى، ومن أسرة إلى أسرة. ولنواصل غدًا ما انقطع من حديث. د. زكريا خنجي Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :