يستغرب البعض عندما نتحدث عن الرومانسية في الإسلام، معتقدًا أن الإسلام دين جامد خالٍ من المشاعر والعواطف، خالٍ من الحب والعلاقات الزوجية والأسرية النبيلة التي يمكن من خلالها أن تتكون أسرة خالية من أمراض العصر، فيعتقد هؤلاء أن التجهم والعبوس هما السمة الغالبة على رجال ونساء هذا الدين، وبالتالي لا يمكن أن يتم التفاهم بين الطرفين - الزوج والزوجة - إلا بالعناد والإجبار والضرب وما شابه ذلك. في حين أنه ينبهر عندما يشاهد المسلسلات والأفلام الرومانسية، فينبهر عندما يشاهد البطل وقد أمسك بيد زوجته أو عشيقته وهما يمشيان الهوينة في الحديقة أو في السوق أو في أي مكان كان، ينبهر عندما يشاهد أبطال المسلسل أو الفيلم يتضاحكان معًا، عندما يواسي الرجل المرأة في لحظات الضعف الإنسانية أو عندما تقع في مصيبة أو كارثة، ينبهر عندما يجد أن الرجل يعاضد زوجته عندما تريد أن تحقق طموحاتها، وكذلك يفعل عندما يشاهد كيف تؤازر المرأة زوجها أو عشيقها أو من يكون ذلك الذي يعيش معها. ننبهر ونتمنى أن تكون حياتنا في مثل رومانسية البطل أو البطلة. نشاهد ذلك الاهتمام الهائل بالأسرة والعائلة في الكثير من الأفلام الاجتماعية العربية والأجنبية، وكيف يحرص كل من الرجل والمرأة أو الزوج أو الزوجة على المحافظة على ذلك الترابط الأسري مهما كانت المشاكل التي تعصف بالأسرة، فالرجل أو الأب يحاول وبكل طاقته أن يدير دفة سفينة الأسرة والأم أو الزوجة من ناحية أخرى تصارع الأمواج وتضحي من أجل أسرتها، ننبهر ونتحدث فيما بيننا وبين أصدقاءنا ونتساءل؛ ألا يمكن أن تصبح حياتنا بمثل هذا الجمال؟ ألا يمكن أن تغدو أسرنا بهذا التماسك وهذا النبل؟ نقرأ الكتب - هذا إن كنا نقرأ - والأدبيات التي تتحدث عن النظريات التي يصيغها بعض الرجال والبشر عن حسن تربية الأبناء سواء كانوا في سن صغيرة أو في سنين المراهقة الصعبة، وكيف من المفروض أن يتصرف الأب والأم مع هؤلاء في هذه المرحلة العمرية؟ وكيف من المفروض أن تكون العلاقة بين كل هذه الأطراف حتى تسير الأسرة وبالتالي المجتمع إلى الاستقرار والأمن المجتمعي. ننبهر بكل ذلك، ولكننا ننسى أن كل هذا تمثيل، وهم لا يمت للواقع بصلة، كل تلك المشاهد صنعها خيال مؤلف ووهم مخرج ربما يكونان هم في حالة من التعطش للرومانسية أكثر من المشاهد نفسه، ولكنهما يقومان بصناعة وهم حتى يصدق الناس هذا الوهم. وحتى الكتب والأدبيات يمكن أن نعتبرها حبرا على ورق، نظريات وليست حقائق تسير على الأرض. إذن ألا توجد رومانسية وحب وعلاقات زوجية وأسرية على الأرض؟ بلى توجد، ولكننا وللأسف نبحث في المكان الخاطئ، نبحث في المكان الذي يحتاجون فيه إلى وجود أسرة وبقاء العائلة، ففي الغرب والشرق يفتقرون إلى هذه الحياة لذلك يصنعونها على الشاشات فقط، أما نحن فإننا يمكن أن نشاهدها كواقع وحقيقة ملموسة، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم مكتبة عصرية كبيرة يمكن لكل الراغبين من النهل منها، فمن يريد أن يتعلم الإدارة فيمكنه أن يتعلمها من رسول الله، ومن يريد أن يتعرف على أحدث الأفكار والأطروحات التعليمية فيمكنه أن يتعلم ذلك على يدي رسول الله، ومن يريد أن يصبح تاجرًا فيمكنه أن يفعل ذلك عندما يصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جولاته في الأسواق، وكذلك فمن يبحث عن الرومانسية فيمكن أن يتعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته وأبنائه وأحفاده. حياة ثرية، ينبوع من ماء نقي، نهر متدفق، حياة لا تنصب، وعلم سرى بين البشرية، وأخلاق لم يستطع أن يسمو إليها إنسان إلا هو صلى الله عليه وسلم، وقيادة أبهرت كل القادة، وتنظيم وفكر لم يتمكن أي إنسان حتى الآن من الوصول إليه، فقد أبهر صلى الله عليه وسلم الأعداء الذين حاولوا الطعن فيه ورجالات ومفكري الغرب قبل محبيه، فقد قال عنه جورج برنارد شو «لو كان محمد حيّا لحل مشاكل العالم وهو يشرب فنجانًا من القهوة»، وبرنارد شو يعد أحد أشهر الكتاب المسرحيين في العالم، وهو الوحيد الذي حاز على جائزة نوبل في الأدب للعام 1925 وجائزة الأوسكار لأحسن سيناريو (عن سيناريو ينجماليون) في عام 1938, وغيره الكثير. ولكن في الحقيقة يصدق فينا قول الله تعالى في سورة الزمر - الآية 45 حينما يقول تعالى (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). نعم، فنحن في الكثير من الأحيان نحب أن نسمع عن غيفارا وغاندي وماو وشكسبير وما إلى ذلك من سير رجالات يعانون في أنفسهم من الضعف البشري، ونستمتع بكل جوارحنا ومشاعرنا عندما تسر سيرهم، ولكننا لا نحبذ السمو والرقي عندما نسمع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليس غفلة ولكنها وللأسف مكابرة. لذلك فإننا في هذه السلسلة من المقالات سنحاول أن نتطرق إلى ما غفلنا عنه طيلة السنوات الماضية، ولا ندعي إننا استطعنا أن نأتي بكل حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم الأسرية والاجتماعية، ولكنها محاولة لتسليط بعض الأضواء على حياة أعظم البشر وسيد الأنبياء والمرسلين، لعلنا نتعلم منه بعضا من تلك الحياة التي عاشها مع زوجاته وعياله، فإن تمكنا من ذلك فإننا على ثقة في أن الكثير من مشاكلنا الأسرية سوف تختفي، لأن جزءا كبيرا من المشاكل الأسرية لا معنى ولا ترقى الى مستوى أن تسمى مشاكل، فقط أنظروا إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتعلم منه كيف كان يعيش وكيف عاش. د. زكريا خنجي
مشاركة :