البدايات الصعبة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) لا توجد معلومات كثيرة عن الحياة الاجتماعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إلا في بعض الجزئيات الصغيرة، كولادته ورضاعته وشق الصدر وما إلى ذلك من بعض المشاهد من هنا وهناك، ولكن لا يوجد تسجيل كامل عن حياته صلى الله عليه وسلم إلا منذ لحظة بعثته حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى. لذلك فإن الباحث في هذا الموضوع وخاصة المتحدث عن الجوانب الأسرية والاجتماعية في حياته صلى الله عليه وسلم يجد الكثير من الاختلافات والكثير من الأقوال حول ولادته صلى الله عليه وسلم، وحول وفاة والده عبدالله وما إلى ذلك، ولكننا سنحاول هنا أن نتجاوز كل هذه الخلافات والاختلافات ونتركها للمراجع وأمهات الكتب، وسنتحدث - كما تعودنا الخلال السنوات الماضية - عن هذه الأمور ببساطة ومن غير طرح أي نوع من الخلافات والاختلافات، هذا على الرغم من أن حياته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وتربيته كان له دور مهم في أداء واجب الرسالة والدعوة التي تنتشر اليوم في كل أرجاء المعمورة. ولنبدأ من البداية،، لا نعرف بالتحديد متى توفي والد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الذي نعرفه إنه صلى الله عليه وسلم لم يدرك والده عندما أدرك الدنيا، ونعرف كذلك أنه صلى الله عليه وسلم عاش يتيمًا منذ نعومة أظفاره، ففتح عينه على الدنيا ولم يجد أب يمكن أن يحنوا عليه كبقية الأطفال، وهذا يعني أيضًا أنه لا أخ ولا أخت أشقاء له، فكان وحيد أمه، بمعنى آخر أنه كان الطفل الوحيد. والطفل الوحيد كما تشير الدراسات النفسية يعيش أنانيًا وفي حالة دائمة من الاكتئاب والوحدة والحزن الدائم، بالإضافة إلى العصبية والعناد، فهو لا يعرف أن يلعب مع أقرانه وبالتالي لا يتمكن من إفراغ طاقاته البدنية والنفسية لذلك تشير معظم الدراسات النفسية الى أنه يبدأ في إتلاف محتويات حجرته والمنزل كمتنفس طبيعي لطاقته الزائدة، وقد يلجأ لما يسمى بعلم النفس «لفت الانتباه السلبي» عن طريق العناد وعدم الطاعة في أبسط الأشياء. عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه أياما قليلة، ومن الطبيعي كأي أم كانت تناغيه وتضاحكه، فمن المعروف أن علاقة الطفل بأمه تبدأ منذ اللحظات الأولى، وهذا – كما يشير علماء النفس - أنه يترك آثارًا مميزة في شخصية الطفل، وتتناقص تأثيرها عليه كلما كبر الطفل، ويرى بعض علماء النفس أنه حينما يبلغ الطفل السادسة من العمر أو السابعة فإنه يكون بأمس الحاجة إلى الأب الذي يمثل الواقع، فهو الذي يزود الطفل بالمعايير الخارجية للمجتمع وبالتالي يهيئه للتكيف مع المحيط والبيئة وحمايته من الأضرار الآتية من الخارج، وهو - أي الأب - الدليل على الانضباط والمؤشر على القانون وهو مظهر العدل في الحزم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد والده وغدا يتيمًا، وتشير معظم الدراسات النفسية والاجتماعية الى أن الأيتام يكونون عادة لديهم شعور دفين بالحرمان الاجتماعي والعاطفي، وتصيبهم حالات من الاكتئاب، يمكن أن تؤدي إلى ضعف علاقتهم الاجتماعية مع الآخرين، وربما يصل الأمر إلى جنوح بعضهم، وكذلك انخفاض مفهوم الذات، بالإضافة إلى كثرة الوقوع فريسة للاضطرابات النفسية والسلوكية والتي من أهم مظاهرها التبلد الانفعالي، ونقص التركيز، ومص الأصابع، واضطرابات النوم والسلوك العدواني وضعف الثقة بالنفس والشعور بالوحدة النفسية، وما إلى ذلك من أمور عديدة. ولكنها أيام قليلة ويتوافد على مكة المكرمة الحضانات والمرضعات، وتذهب السيدة حليمة السعدية رضي الله عنها بهذا الطفل اليتيم والوحيد صلى الله عليه وسلم ليعيش بعيدًا عن صخب مكة وضجيجها وأفكارها ومعتقداتها وأصنامها، يعيش بعيدًا عن أمه وجده، وذلك حتى لا يقول المرجفون بعد ذلك أن تلقى من جده عبدالمطلب التعاليم والأفكار بهدف أن يسود قومه ويطالب بالزعامة والمُلك والمنصب. عاش في البادية أو شبه البادية مع أخوة له من الرضاعة، وهذا أخرجه من الشعور باليتم وبالوحدة وخالط الأقران والأخوة والأخوات، فلاعبهم ولاعبوه ومازحهم ومازحوه، حتى أنه ترك آثار عضة على جسد أخته من الرضاعة الشيماء رضى الله عنها - كما سنذكر ذلك فيما بعد - وخرج معهم يرعى الغنم ويعيش بين أحضان الطبيعة النقية البكر، مما يترك له المجال والمساحة الزمنية الكبيرة للتفكير والتأمل، واللعب والممازحه. يعيش بين أخوته من الرضاعة ثلاثة أعوام تقريبًا فيخرجه ذلك من المشاكل النفسية للطفل الوحيد والطفل اليتيم، وإن شعر بهما إلا أنه استطاع خلال هذه السنوات القصيرة أن يتجاوز معاناتها النفسية واضطراباتها والتبعات المترتبة عليها، فأصبح أبنًا وأخًا وصديقًا، وهذا ساعده كثيرًا في تنمية علاقاته بعد ذلك، لأنه تعامل مع كل هؤلاء البشر بطريقة أو بأخرى. فلو عاش بمكة فإنه حتمًا سيحظى بالكثير من الحب والدلال من أمه وجده وأعمامه، وربما يعيش في بحبوحة من المال والعزة والسيادة، وربما كانت تلك التربية الناعمة الخالية من الهموم ستفسده، فهو اليتيم الوحيد في بيت جده عبدالمطلب وأعمامه وكل المحيطين به، ربما حبًا لهذا الغلام أو عطفًا به أو رثاءً، ولكن الله سبحانه وتعالى يريده أن يعيش صلى الله عليه وسلم بطريقة مغايرة تمامًا، يريده أن يعيش بعيدًا عن الأنانية وحب الذات والوحدة والحالات النفسية التي تصاحب الطفل الوحيد أو اليتيم، فكان لا بد له صلى الله عليه وسلم أن يعيش معه أخوة وأخوات، يشاركهم الوجبة الغذائية، يشاركهم ثدي حليمة رضي الله عنها، فلم يكن ثديها له وحده صلى الله عليه وسلم وإنما كان هناك أخ له بالرضاعة، فكانت ترضعه حينًا وترضع أخاه حينًا أخر، وكان يشاركهم حجرة المعيشة والنوم فحتمًا كانت تلك الغرفة صغيرة فكانوا يتزاحمون فيها أثناء النوم واللعب، ويشاركهم حياتهم وأحزانهم وأفراحهم، وربما نهرته حليمة رضى الله عنها بسبب أو بآخر من أسباب الشقاء الطفولي، فربما لم تكن السيدة أمه آمنة ستردعه إن فعل نفس الفعل وذلك خوفًا عليه ودلالاً، وهذا يفسد شخصية الطفل. ولنواصل غدًا في رحلتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبداياته الصعبة. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :