وحتى تكتمل صورة الواقع الاجتماعي والأسري للمجتمع العربي قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية، فإنه من الضروري أن نتطرق اليوم إلى وضع الدين والعقيدة التي كانت سائدة في ذلك الوقت. يذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) وغيره العديد من المؤرخين إن أول من أدخل عبادة الأوثان إلى شبه الجزيرة هو عمرو بن لُحَيٍّ زعيم قبيلة خزاعة، إذ أنه عندما كان في الشام ذات مرة رآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك؛ وعاد إلى الجزيرة العربية ومعه هُبَل، أحد الأصنام في الشام، وجعله في جوف الكعبة، وكان هُبَل من العقيق الأحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب، وكان أول صنم للمشركين وأعظمه وأقدسه عندهم. ثم توالى ظهور الأصنام في العرب، فكان من أقدمها كلها مَناة، وكانت لهُذَيْل وخزاعة، وكانت على ساحل البحر الأحمر ناحية المُشَلَّل بقُدَيْد، ثم اتخذوا اللات في الطائف، وكانت لثقيف، ثم اتخذوا العُزَّى - وهي أَحْدَثُ من اللات ومناة - بوادٍ من نخلة الشامية فوق ذات عِرْق، وكانت لقريش مع كثير من القبائل الأخرى. وبمرور الوقت انتشرت الأصنام في طول الجزيرة العربية وعرضها، وبعد ذلك وبسبب أن العرب يعظمون الكعبة المشرفة؛ لذلك أدخلوا تلك الأصنام إلى جوف الكعبة، وكانت لكل قبيلة من قبائل العرب صنمها عند الكعبة. وإن كانت عبادة الأصنام والوثن سكنًا لروح العربي آنذاك، إذ أنها تمثل استقرار القوى الروحية في الأشياء المادية، إلا أن العديد من القبائل العربية اعتقدت بوجود قوى روحية كامنة مؤثرة في العالم والإنسان، وفي بعض الحيوانات والطيور والنبات والجماد وفى بعض مظاهر الطبيعة المحيطة به كالكواكب، وتطورت وثنية العربي إلى عبادة قطع الصخور ومعظمها كانت بيضاء اللون وذلك لأنها كانت ذات علاقة بالغنم والجمل ولبنهما، كما نسج العربي حول الآبار والجبال والأشجار قصصًا وأساطير ورسم صور خيالية حول بعض الأحجار مثل الصفا والمروة تخيلهما العرب رجل وامرأة مسخهما الله حجرين. وكان العرب يعرفون الجن والشياطين فكانت الشياطين في الجاهلية تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) البقرة - الآية 158. قال: كانت الشياطين في الجاهلية تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكانت فيهما آلهة لهم أصنام، فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة؛ فإنه شيء كنا نصنعه في الجاهلية. فأنزل الله: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) البقرة - الآية 158. يقول: «َليْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ وَلَكِنْ لَهُ أَجْرٌ». وكانوا يتعاملون مع الجنِّ تعاملاً حقيقيًّا، فكانوا يعوذون برجال من الجنِّ (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن - الآية 6. وجعل أهل الجاهلية الجنَّ شركاء لله؛ (وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) الأنعام - الآية 100. ومن جانب آخر كان العرب يتحاكمون إلى الكهَّان، فعن ابن جريج: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) البقرة - الآية 256. قال: كهان تنزل عليها شياطين، يُلقون على ألسنتهم وقلوبهم. وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، أنه سمعه يقول - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، فقال: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان. وانتشرت الكهانة بين العرب فدخل عليها الدجل والخداع والاحتيال؛ حتى كانوا يتكهنون وما يحسنون الكهانة، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أبو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أبو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ» رواه البخاري. وعلى الرغم من ذلك الشرك البيِّن فقد بقي من العرب مَنْ كان يعبد الله تعالى على دين إبراهيم عليه السلام والذي كان يعرف بالحنفية؛ مثل زيد بن عمرو بن نفيل؛ لكنه لم يكن ليقدر على الدعوة إلى الحنيفية وسط صناديد الكفر في قريش، فكان كل ما يقدر على فعله هو العيب على ذبائحهم، وإنكار معبوداتهم. وكذلك كان ورقة بن نوفل الذي كان يدين بالنصرانية، ولم يُرْوَ عنه أنه كان داعيًا إليها، أو متحدِّثًا عنها بين أهله في قريش. والصورة العامة وبالإضافة إلى هذا الظلام الذي يحيط بالجزيرة العربية والعالم المعروف في ذلك الوقت كانت هناك العديد من العادات التي زادت ذلك الظلام ظلامًا مثل شرب الخمر والميسر والجهل واللهو والمجون وقل ما شئت فقد كان السوس ينخر، ولا ينخر بالجزيرة فحسب وإنما كان ينخر في كل بقاع العالم آنذاك. في تلك اللحظة انتشر الظلام في كل أرجاء الأرض وبلغت البشرية قاع الحضيض، فما كان من الممكن أن ينقذها سوى أن يبعث الله سبحانه وتعالى رسولاً ليضيء العالم وينتشل البشرية من درك الحضيض إلى قمة الحضارة والإنسانية، فكان هذا وقت محمد صلى الله عليه وسلم ودوره، وجاء يرافقه القرآن الكريم، ذلك الكتاب النور الذي أضاء العالم وما زال. ويذكر ابن هشام في كتابه السيرة النبوية إن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قد قالت حينما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد خرج منها نورٌ رأت به قصور بُصرى من أرض الشام. وما زال للحديث بقية... Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :