تأملات في آيات القرآن الكريم: التوجيهات العقلية غير المباشرة في القرآن الكريم (15)

  • 5/26/2018
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

(الحوار جوهر المسيرة البشرية) تحدثنا في المقال السابق عن أساليب التربية العقلية غير المباشرة في القرآن الكريم، والتي اتجهت وجهتان: الوجهة الأولى تستخدم أساليب تعتمد على البرهان العقلي وتسلسل الحقائق والحوار الطويل أو القصير الذي يصل في النهاية إلى لب الحقيقة ويثبت دعائمها في عقل الإنسان وقلبه، وهذه الوجهة تشتمل على أساليب البرهان العقلي والحوار والاستجواب والمحاكمة العقلية والتكرار. أما الوجهة الثانية فتستخدم الرمز والخيال، لتقريب الحقائق إلى الأذهان، ومنها الأساليب الرمزية والصورية والقصصية. وتحدثنا عن أسلوب البرهان العقلي وهو من الأساليب إلى ترمي إلى الإقناع عن طريق العقل والمنطق، ثم أسلوب الحوار وذكرنا أن الدعوة السماوية منذ بداياتها اعتمدت على الحوار، ولعلها أرادت أن تعلم البشرية الطريقة الوحيدة الممكنة للتفاهم والتعاون والتعايش السلمي لإعمار الأرض، بعيدا عن الجدل الضار والمماحكات السياسية، والتناقض والعنف والإرهاب، فالحوار الذي ارتضته العناية الإلهية قاعدة لحركة الحياة، ولسلامة العقل والقلب والنفس، هو جوهر المسيرة البشرية. وقد استعرضنا بعضا من أساليب الحوار بين الله سبحانه وتعالى وملائكته، وأخرى بين الله جل وعلا وبين أنبيائه، وسوف نستعرض اليوم نماذج حوارية بين الأنبياء وأقوامهم. ومنها ذلك الحوار الذي جرى بين نبي الله موسى وفرعون، ذلك الحوار الذي بذل فيه نبي الله موسى جهدا كبيرا ومحاولات مستميتة لهداية فرعون إلى طريق الحق ولكن دون جدوى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ, فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ.) (الشعراء 23 - 33). ومما استوقفني في هذا الموضع التوجيه الإلهي لنبي الله موسى وأخيه هارون عندما دعاهما الله سبحانه وتعالى للذهاب لهداية فرعون: (اذهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى) (طه 43 - 44)، والمولى جل وعلا يعلم أن فرعون لن يصل إلى طريق الهداية مطلقا، ومصيره إلى الغرق، ولكن الله سبحانه وتعالى يحدد لنا منهج الدعوة إليه بهذه الكلمات اللينة المحببة إلى النفس، ولا يهم بعد ذلك إن قبل المدعو إلى الهداية تلك الدعوة أو لم يقبل، ولكنه النهج الإلهي في الحوار. ونستعرض هنا مثالا جديدا للحوار وهو الحوار مع الذات، ومنه حوار نبي الله إبراهيم مع نفسه، متأملا الكون، لعله يهتدي إلى الحقيقة التي حار في كشفها قبل أن يتم تكليفه بمهام الأنبياء، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام 75-79). بهذا المنطق الواضح البسيط مع النفس، أصبح إبراهيم من الموقنين، فقد كشف حواره مع نفسه عن الفارق الكبير بين التحول والتغير، وبين الثبات على حالة واحدة، فقد أدرك بعقله وفطرته السليمة أن التحول والتغير من خواص الأجرام السماوية، وهذا يعنى أن هنالك قوة كبرى وراء هذا التحول والتغير والحركة المنضبطة، إذ أن هذه الأجرام السماوية لا تتحرك من تلقاء نفسها، كما أنها لا تصطدم ببعضها ولا تسقط على الأرض، فلابد أن يكون هنالك قوى عظمى تحركها وتضبط حركتها، وبهذا التفكير المنطقي المنضبط توصل إلى وجود المولى جل وعلا، وامتلأ قلبه باليقين والإيمان. وفي النماذج الحوارية التي سقناها - وغيرها كثير في القرآن الكريم - نلاحظ أن القاسم المشترك بينهما جميعا هو استنادها إلى المنطق السليم والعقل الواعي في الإقناع والاقتناع. وخلاصة الأمر، أن الحوار القرآني هو عبارة عن مناقشات يتم فيها تبادل الحجج والبراهين العقلية للوصول إلى الحقيقة. بيد أن الحوار القرآني له مدلولات تربوية عميقة التأثير يمكن حصرها فيما يلي: * لا شك أن أول فائدة تربوية نجنيها من وراء الحوار القرآني بهذا الشكل البديع والمقنع الذي رأيناه، هو أن الحوار القرآني ينمي في الفرد ملكات التفكير المنظم المعتمد على العقل والمنطق وربط الأسباب بالمسببات، كما يساعد على تدريب العقل على التأمل السليم، والاستنتاج الواضح، ولعله أقدر الوسائل التي يتم بها شحذ العقول، وتنبيهها إلى الحق والصواب. * يبين هذا الحوار للناس أن الطريق إلى الإقناع والاقتناع، وإلى التفاهم بين البشر هو الحوار الذي يتم عن طريق تبادل الفكرة بالفكرة، ومقارعة الحجة بالحجة، حيث لا يفيد كثيرا الإقناع عن طريق العنف والشدة، لأنه إذا زال ذلك الأثر الضاغط، رجعت القلوب عن معتقداتها، أما الاقتناع عن طريق الحوار فهو يرسخ الأفكار في العقول، ويؤكد احترام الرأي الآخر، ويثبت المحبة في القلوب. يقول المولى عز وجل: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل 125). * يفيد الحوار في تحرير الإنسان من العقد النفسية والتي تأتي نتيجة عدم تمكن الإنسان - في حالات معينة - من الإفصاح عما يحتمل في نفسه، وتكرار هذه الحالة يسبب الكبت المستمر مما يؤدي إلى أخطار جسيمة على الناحيتين العقلية والنفسية، وهذا يؤثر على نمو الشخصية وتكاملها. وقد اتفق علماء النفس على أن الحوار هو السبيل إلى تحرير الإنسان من العقد والانحرافات النفسية، وعمليات تعثر الحوار أو حجره، هى التي تؤذى النفس البشرية، وتغرقها في ظلمات الخوف والضياع. * الاستفادة من سماحة الله وصبره في حواره مع خلقه ومخلوقاته - ولله المثل الأعلى- في بناء علاقة صحيحة داخل إطار الأسرة، وفي مؤسسات التربية، وفي المجتمع الكبير، مما يؤدى إلى توثيق العلاقات بين الأفراد والأجيال عن طريق الحوار المفتوح الذي يؤثر تأثيرا إيجابيا مباشرا على عملية نقل الخبرات من جيل إلى جيل. وهكذا يصبح الحوار جوهر وأساس المسيرة البشرية.

مشاركة :