تحدثنا في المقال السابق عن أسلوب الحوار في القرآن الكريم وذكرنا أن الدعوة السماوية منذ بداياتها اعتمدت على الحوار، ولعلها أرادت أن تعلم البشرية الطريقة الوحيدة الممكنة للتفاهم والتعاون والتعايش السلمي لإعمار الأرض، بعيدا عن الجدل الضار والمماحكات السياسية، والتناقض والعنف والإرهاب، فالحوار الذي ارتضته العناية الإلهية قاعدة لحركة الحياة، ولسلامة العقل والقلب والنفس، هو جوهر المسيرة البشرية. وتستمر آيات القرآن الكريم في مدّنا بالتوجيهات الربانية في مجال التربية العقلية، لتؤسس لنا منهجا متكاملا لتسيير وتوجيه حركة البشرية في هذه الحياة الدنيوية بطريقة سليمة وصحيحة تخلصنا من منغصات التصرفات الخاطئة في التفكير، والتي قد تقود إلى حياة دنيوية بائسة، كما تؤدي بنا إلى حياة أخروية تعيسة. ومن هذه الأساليب أيضا أسلوب الاستجواب القرآني. وهو من أساليب التربية العقلية في القرآن الكريم، وفيه توجه أسئلة إلى المخاطب لتقوده إلى إيقاظ عقله من سباته، والوصول إلى معرفة الحقيقة بنفسه. وهذا الأسلوب يشابه طريقة من طرق التدريس الحديثة هي طريقة المناقشة والاستنباط، وإن كانت أصول هذه الطريقة قديمة منذ عهد سقراط حيث كان يستخدمها مع تلاميذه للوصول إلى الحقائق التي يريدها. ولكننا نجد القرآن الكريم يستخدم هذه الطريقة بشكل معجز وممتع ومقنع في الوقت نفسه، وفيما يلي نماذج من هذا الأسلوب: يقول المولى جل وعلا في سورة (المؤمنون): (قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (83 - 90). وفي سورة يونس: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (يونس 31). وفي سورة النمل: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَه مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (60-63). وفي سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (63 -67). أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (68- 70). أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (71- 74). وفي سورة القصص: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (71-72). يتضح من الآيات السابقات كأنما الإنسان يعرف هذه الحقائق في قرارة نفسه، ولكنه لم يستعمل عقله لكي يستفيد من هذه المعرفة في التوقف عن الجدل الضار والخلافات التي تعوق مسيرة الإنسان ليتفرغ لواجب إعمار الأرض، والقرآن الكريم هنا يذكره بها من دون إضافة شيء جديد، فقد يستفيد الغافل ويستيقظ عقله عن طريق الطرح المفاجئ لهذه الأسئلة، ومفاجأته بها أحيانا عن طريق تكرار السؤال بعد كل عبارة يساق فيها دليل أو برهان جديد. ومعروف أن كفار مكة لم يكونوا ينكرون وجود الله، ولا ينكرون أنه الخالق والرازق والمدبر، وإنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى، ويعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله سبحانه وتعالى، فهو هنا في هذه الأساليب يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم ليصحح لهم عن طريق إيقاظ وعيهم ومنطقهم الفطري ذلك الخلط وذاك الضلال. وهذا معناه أن الاستجواب يمتد على خلفيات المشركين ومسلماتهم ثم لا يطلب إليهم الجواب وإنما يقرره لهم اعتمادا على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات. ولا شك أن الاستجواب الذي طرح على المشركين يكشف مدى الاضطراب الذي لا يعتمد على منطق، ولا يرتكن إلى عقل، وذلك لأن هذه الأشياء التي يلفت الاستجواب النظر إليها عبارة عن حقائق ساطعة كالشمس، الأمر الذي يساعد العقل على الاقتناع بصحة ما يعرض عليه، وهذه حقائق إذا حاول الإنسان مناقضتها فإن العقل لا يقبل ذلك.
مشاركة :