في نبوءته وقراءته لما سيحصل للبشرية يقول تولستوي «سوف تسود شريعة القرآن العالم لتوافقها وانسجامها مع العقل والحكمة، لقد فهمت، لقد أدركت ما تحتاج إليه البشرية اليوم هو شريعة سماوية تُحق الحق وتُزهق الباطل» وباختصار شديد تولستوي هو من العمالقة الروائيين ومُصلح اجتماعي وداعية سلام ومُفكر أخلاقي، صاحب كتاب «مملكة الرب داخلك» وهو الكتاب الذي تأثر به كثيرًا أهم مشاهير القرن العشرين أمثال المهاتما غاندي ومارتن لوثر كنج، هذا السرد المختصر الذي يبدو أنه في غير محله أتيت به للقول بأن أصحاب الفكر الحُر في العالم وعلى مدى التاريخ أنصفوا القرآن الكريم وأنصفوا رسولنا الكريم وتولستوي له رسالة في سيدنا محمد كلها تبجيل وتعظيم، هذا ما أردناه من هذه المُقدمة. الآية التي اتخذنا منها عنوان المقال من سورة مريم، لا يمكن إلا أن تستوقف الناظر المتأمل بكتاب الله الحكيم ليسأل نفسه تُرى ما الفرق بين المس واللمس اللتان وردتا في كتاب الله العظيم، وبالاطلاع على جهود الأفاضل الذين تكلفوا عناء البحث الذي لا ننسبه إلى أنفسنا نجد أن هناك فرقًا جوهريًا بين الاثنتين، مما يترتب على هذه التفرقة اللغوية أحكام فقهية شاعت ردحًا طويلاً من الزمن نتيجة لعدم التفرقة اللغوية بين «المس» و«اللمس». وأود من باب الإنصاف وإسناد الفضل الى أهل الفضل أن أذكر كتاب «منهجية القرآن المعرفية» للمُفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد الذي يُعتبر -رحمه الله- أيقونة بين المُفكرين، والذي استجار به المركز الثقافي الإسلامي بواشنطن لكتابة هذا الكتاب، تميز هذا الكتاب بالدقة العلمية والنظرة التأملية في آيات الكتاب الحكيم حيث استخرج بمواصلة النظر والتأمل آيات من الآيات فرحمة الله عليه واسكنه فسيح جناته. يقول الحاج حمد: يضع الله حدودًا دلالية بين المباني اللغوية المتشابهة كالفرق بين «مسّ» القرآن و«لمس» المصحف، ويتابع قوله أن المسّ للقرآن يختلف عن لمس اليد لجلدته وصحائفه، بالمعنى الأول ورد في (سورة الواقعة - 79) «لا يمسه إلا المُطهرون» وبالمعنى الثاني جاء في سورة الأنعام «ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين». المس يكون نفسيا ووجدانيا وعقليا وحيثما استخدم القرآن «المسّ» يكون هذا المعنى الدلالي الضابط، ومثال ذلك (الآية 95 من الأعراف) «مسّ آباءنا الضراء والسراء» وبنفس السورة الآية 201 ورد هذا المعنى الدلالي «إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا»، وهذا ينسحب على السيدة مريم البتول حيث إنها بحكم تكوينها الفسيولوجي غير قابلة على تبادل المشاعر مع الذكر فهي ليس لديها قابلية الشهوة، فأمها نذرتها لله منذ أن حملت بها، وقيّدت النذر بتحريرها من موجبات العلاقة النفسية والبدنية مع الآخر المقابل وهو الذكر، لهذا فإن المعنى الدلالي لقولها يذهب مذهب المس النفسي الوجداني، حيث «قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر». وهذا ينسجم مع كونها أنثى مُحررة من التعلق بأي شيء غير الله، وهو سبحانه الذي تقبلها قبولا حسنا، وليس بعيدًا عنا حالة سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام الذي خُلق حصورا ولا تمسه شهوة ولا ميل للجنس الآخر بحكم ختم النبوة في بني إسرائيل بعد سيدنا يحيى. «وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن» فلا تسترد الفريضة كاملة وإنما تجب نصف الفريضة، ولكن إذا أخذها إلى بيته وساكنها ثم طلقها ولم يكن قد لامسها فقد وجب عليه دفع الفريضة كاملة لأنه قد «مسّها» بالمساكنة، فلا يلتبس الحكم الشرعي حين نميز بين المس واللمس، فالمساكنة «مسّ» ولو لم تؤد إلى لمس، فحدوث الفسخ بعد اختلاء الخطيب إلى خطيبته قبل الانتقال إلى بيت الزوجية وحتى لو لم تؤد هذه الخلوة إلى ملامسة، ولكنه تحقق المسّ النفسي والوجداني. واللمس لا يخفى على أحد حيث ينحصر بالدلالة المادية لمعنى اللمس مثل لامستم النساء، مما يوجب الغُسل وبتتبع آيات القرآن لمن أراد سيقف على معنى الملامسة بمعنى النكاح أو ما يدور في فلكه. الإعجاز ليس بلاغيًا فقط ولا يخضع بالكامل للتقنين، فمن يقنن بلاغة القرآن فإنه يقنن ما لا يُقنن وهو الإعجاز، لأن تقنين الأشياء يعني القدرة على الإتيان بها، أي إعادة إنتاجها وفق نفس القوانين أو الإتيان بالمثل ولو بدرجة اقل، وهذا هو المستحيل بعينه. من خلال هذه اللفتات التي ينثرها القرآن أمامنا وبشكل غير منقطع، ألا يدفعنا إلى أن نعيد صياغة العلاقة بيننا وبين القرآن والخطاب هنا موجهة إلى الفئة المُتعلمة، ونُقدر هذا الكنز الذي بين أيدينا ونشرع نحو قراءته بتدبر وما تيسر من التأمل وكلنا يتلو الآية ولم يقف عندها وهي «فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم»، ولم يقل «إذا تلوت القرآن» لأن الشيطان تُستنفر قواه عند قراءة القرآن التدبرية ولا يكون هذا حاله عند تلاوته، لأن القراءة بمعناها الحقيقي ضد مسلكه وتكوينه الباطل والقرآن حق ولا يتبين هذا الحق إلا بالقراءة. هلاّ تصالحنا مع كتاب الكون وكتاب الأبد وكتاب رب العالمين. بقلم: عاطف الصبيحي
مشاركة :