آيات في الآيات (6): وقالت نملة

  • 5/23/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الآية 18 من سورة النمل «حتى إذا أتوا على وادِ النمل قالت نملة يا أيها النّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» آية فيها كثافة إعجازية من جوانب عدة، نسأل الله التوفيق في القبض على تلك المعاني التي تضمنتها هذه الآية العظيمة حقًا، فعنصر المفاجأة مُعبر عنه من خلال «حتى إذا» وبقية الكلمات في الآية كانت ردة فعل من النملة على تلك المُشاهدة من النملة التي شاهدت النبي سليمان وجنوده قادمين إلى مقر إقامة النمل، ولنحاول النظر ببقية الكلمات ذات البلاغة المتناهية من تلك النملة المُتناهية في الصغر. «أتوا» بمعنى وصلوا وداهموا مكان تجمع النمل، وأصبح وجودهم واقعًا معرفيًا ضمن دائرة النمل المعرفية لذا وجب التعامل مع هذا الواقع ولم يستعمل القرآن لفظ «جاءوا» لاختلاف المعنى بين جاء وأتى وهذا ليس مكان الاستطراد في هذه الجزئية. قالت نملة والقول يستدعي بالضرورة أن يكون المُستمع واعيا للقول الذي قيل له وأردفت النملة بأداة النداء «يا» ثم «أيها» للتأكيد على أهمية الأمر ولم تقل «يا نمل» حتى يعُم التحذير كل أفراد جماعة النمل، ثم جاء فعل الأمر «ادخلوا» وفيه الضمير الخاص للعقلاء للتصرف الوقائي مما قد يداهمهم في اللحظات القريبة القادمة ولم تقل لهن «ادخلن» لأنه خطاب موجه إلى العقلاء وهذا يتناسب مع البداية حيث كلمة «قالت نملة». تحديد الأمر بالدخول إلى المساكن حيث السكون والاستقرار بما يضمن الحماية من الخطر الداهم الذي يُحيق بهم وإضافة الضمير إلى مساكن وهو أيضًا يخص العاقل، مما يؤكد أن كل نملة تعرف مأواها ومستقرها الذي تسكن فيه، فالأمر ليس عشوائيًا وأيضًا هذا يتوافق مع مُجمل النص الموجه للعاقل، وهذا تناسق رائع ومترابط بدقة «لا يحطمنكم» تحذير من الهلاك والفناء والتحطيم هنا بمعنى التكسير حيث إن أجسام النمل مكونة من مادة سيلكونية قابلة للتحطيم والتكسير، ونستطيع ملاحظة ذلك لو استمعنا جيدًا للصوت الناتج من تحطيم نملة ففيه جرس التكسير لذا جاء خطاب النملة متوافقا تمامًا مع طبيعة أجسام النمل السليكونية، وذكرت النملة سليمان باسمه مباشرة مجردا من أي ألقاب لأن سليمان معروف عند كل الكائنات الحية وأشهر من أن يُعرف فلم تكن بحاجة إلى القول النبي سليمان أو إسناد أي صفة إليه بقصد التعريف به، وكذلك قالت «وجنوده» ولم تقل الجنود لأن ذلك سيعني جيش سليمان من الرجال وبما ان جنود سليمان كثيرون ومتعددون ومتنوعون قالت وجنوده. «وهم لا يشعرون», التماس العُذر لسيدنا سليمان بأن التحطيم سيكون من غير أن يشعر سليمان وجنوده بذلك، لضآلة حجم النمل ولم تقل «وهم لا يعلمون» وهذا يقودنا الى أن النملة مُقرة بعصمة الأنبياء من الأخطاء عن علم منهم مسبق، لذا قالت لا يشعرون وبصيغة الجمع له ولجنوده، بمعنى أن تحطيمنا وهلاكنا سيكون من غير قصد منهم، وهذا مثل يُحتذى في التماس العُذر للآخر, ضربه الله لنا على لسان نملة لا تكاد تُبين ولا تُرى. ذهب بعض أهل العلم والبلاغة الى أن هذه الآية الكريمة تضمنت ثلاثة عشر أمرًا صيغت بصياغة غاية في الإيجاز والدقة ونستطيع أن نلمس السُرعة البالغة في الحركة بدءًا من الأوامر حتى التنفيذ إلى أن تبسم سليمان ضاحكًا من قول النملة وطلب من الله أن يوزعه ويُعينه على شُكر تلك النعمة التي أنعمها عليه، ففي هذه الآية أحست النملة وبادرت ونادت ونبهت وأمرت ونهت وأكدت ونصحت وبالغت وبينت وأنذرت وأعذرت ونفت، من ذا الذي يستطيع أن يُجمل كل تلك الصيغ الكلامية في عبارة واحدة ، فأي خطاب إنساني قد يحتوي على بعض هذه الصيغ البلاغية كالأمر والنهي والنصيحة أو يُنذر ويُعذر وينصح في جملة واحدة لكن أن يأتي بثلاثة عشر صيغة وتأليفها بهذا الشكل البلاغي المُكثف. وأخيرًا يجب أن نتوقف عند الإعجاز البلاغي والإعجاز العلمي في هذه الآية, فالإعجاز البياني سردنا بعضا من جوانبه، وكذلك الجانب العلمي المُتعلق بنوعية المادة التي يتركب منها جسم النمل والتي لا يناسبها إلا لفظة «التحطيم». ما نود قوله والتأكيد عليه في هذه الفقرة الأخيرة أمران أراهما في غاية الأهمية الأول هو أن لا نُسلط الضوء على الإعجاز البياني الذي وصفة الوليد بن المغيرة بالسحر، مع أهمية هذا الجانب لكن إعطاء الجانب العلمي المركوز في القرآن نفس الأهمية والاهتمام والأهم من ذلك هو السؤال عما كان يعرف أجدادنا الكرام طبيعة المادة التي يتركب منها جسم النمل، والجواب بالنفي إنهم جهلوا هذا الأمر ولا يُعيبهم ذلك لأن المستوى العلمي في عصرهم لم يُسعفهم على ذلك، لذا لم تقع عيني على تعليل لاستخدام لفظة تحطيم مع النمل دون غيرها من الألفاظ. هذا يؤكد لي معنى الآية «ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون», والنبأ غيبي قد يتحول إلى خبر، وقد تحول إلى خبر وحقيقة علمية متداولة باكتشاف المادة السلكونية التي يتركب منها أجسام النمل، وهذا يضطرني ويلجؤني إلى القول أن إعجاز القرآن في الآيات المتشابهة التي يستحيل على جيل أن يؤولها، تأويلها مفتوح على طول خط الزمن الذي يحمل في طياته الصيرورة الصارمة لأنها قرار وإرادة إلهية بأن يسير الزمن من تطور إلى تطور، وهذا السر في القرآن يا ابن المغيرة يا والد سيف الله المسلول.

مشاركة :