لا أعرف الجدوى من سؤال طفولي كهذا، ولم أفكر بالضحية التي تستحق طرح مثل هذا التساؤل عليها، ولكن أعلم بأن جرح الشجرة التي غادرها عصفور أعمق من جرح العصفور الذي لوح مودعا مع كل خفقة جناح. وأعلم بأن هذا الجرح لن يكتفي بالشفاء من وداعات كثيرة يأتي بها العصفور- نادما ربما- لكنها ستستمر في مسافات سفر أطول، إذ يكون وحيدا يبحث عن شجرة كتلك، وعن صوت حزن يعبر عنه بينما ستكتفي الشجرة بالمزيد من الأوراق، ترافق الطير إلى حتفه الأخير، والمزيد من التجاهل عن أظفار صغيرة كانت تغرس بخفة على كتفها فلا تتألم. لو أن الوداعات تكون دائما بهذه الرومانسية اللطيفة، لكانت الجروح الناتجة من تلك الوداعات لا يتجاوز شفاؤها إلا المزيد من السفر، الحنين والعودة إلى الذات، ولكانت جروحنا أجمل. لكن الجرح أعمق إذن من هرطقة بريئة؛ فجراح الوداع عند البشر أكبر من جناح خفاق وأصغر من شجرة لا تتقن التعبير بعد. ومن الآن علي أن أخبرك بأنك لن تنتحر من فراق أحد، ولن تتناول مضادات اكتئاب من دون وصفة مثلما تصور لك المسلسلات والأفلام السينمائية، لتتخلص من أرق النوم نتيجة التفكير بذلك العزيز الذي رحل بمحض إرادته أو إرادتكما، إن صح التعبير، لن يحدث هذا أبدا لأن الجرح سيشرق من ناحية الصدر اليسرى ويتسع مثلما دورة دم. فنحن حين نفارق أحدا لن يكون الأمر مثل فقدان الشخص الذي يشغل الكرسي المجاور لنا لعدة سنين، لأننا سنفقد جزءاً منا، كان قد التصق به وراح معه، وهذا يعني بأنك تفقد جزءًا من قلبك، اقتطاع من المكان الشاسع الذي كنت تلهو فيه بقدم مملوءة بالطين لانعدام الكلفة بينكما، تمزيق للصفحة أكثر حظوة بملاحظات هامشية من الرواية التي تحبها، وشرخ في «الحيط» الذي قضيت عمرك كاملا بالرسم عليه؛ كان هذا الجزء الأجمل من قلبك، إذ كان يسكن فيه ويكتب خلاله عن نفسه التي فارقتك الآن. كل هذا لا يهم، وحتى فراقه غير مجد، ولكن ماذا عن شهيقنا والزفير الذي نطلقه بعد كل وداع؛ أهو جزء مفقود آخر أم استراحة ترميم أو وداع أخير يقلب الصفحة؟ لا يهم نحن؛ هل تتنفسين بعمق أيتها الشجرة لو حطّ عليكِ عصفور؟!نواف الربيع
مشاركة :