صدرت قصة الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي، « العجوز والبحر»، مع طبعة مجلة الحياة في عام 1952، وقد بيعت خمسة ملايين وثلاثمائة ألف نسخة خلال يومين. تتحدث القصة عن صائد سمك كوبي طاعن في السن، لم يتوفق في صيد السمك منذ أسابيع، ويعاني من انتهاء مدخراته. وفي رحلته الأخيرة للصيد يفاجأ بأن تصطاد صنارته سمكة كبيرة. ويبدءا حلمه الجميل بوصوله إلى الشاطئ ليبيع السمكة ويدخر مبلغا من المال لشيخوخته. وتوصف القصة الصراع بين هذه السمكة والصياد، فقد استطاعت السمكة بقوتها سحب القارب والصياد في أرجاء البحر مدة ثلاثة أيام. وتتعقد القصة بمحاولات اسماك القرش التهام السمكة الكبيرة المتعلقة في صنارة الصياد. وتصف القصة بشكل جميل سبع محاولات لأسماك قرش مختلفة للانقضاض على سمكة الصياد. وتنتهي القصة بوصول الصياد إلى الشاطئ مع الهيكل العظمي لسمكته الكبيرة التي التهمت أسماك القرش معظم لحمها، ويضيع حلمه الجميل. وقد حصل الكاتب على جائزة نوبل للآداب تقديرا لإبداعه في كتابة هذه القصة. ويعتقد كثيرون أن هذه القصة تتحدث عن جريجويو فونتسس، وهو القبطان الكوبي لقارب أرنست همنجواي الذي عاش أكثر من مائة واثني عشر عاما، وقد أهدى القارب للرئيس الكوبي كاسترو بعد وفاته، بعد أن ورثه من همنجواي. لقد حاول هيمنجواي في بداية حياته أن ينضم إلى الجيش الأمريكي ولكن رفض طلبه لضعف نظره، فالتحق بالصليب الاحمر. وقد كان مراسلا صحفيا في الحرب العالمية الاولى والثانية وإبان الحرب الإسبانية. وقد كتب الكثير من روائعه القصصية عن الحرب، منها قصة لمن تقرع الاجراس. وفي عام 1954 سقطت الطائرة التي كانت تقله في وسط القارة الإفريقية، وأدت إلى إصابته بجروح بالغة، أصيب على أثرها باكتئاب شديد. وفي اليوم الثاني من شهر يوليو عام 1961 انتحر بإطلاق الرصاص على رأسه. والسؤال عزيزي القارئ: ما الذي أدى بهذا النابغة الادبية إلى الانتحار؟ في السادس عشر من شهر أبريل من عام 2007 قام طالب كوري بكلية فرجينيا التكنولوجية، يسمى سون هوي شو، بإطلاق الرصاص على عدد من طلبة وأساتذة الكلية وجرح الكثير وقتل اثنين وثلاثين منهم في عملية انتحارية مؤكدة. لقد ولد هذا الطالب في كوريا الجنوبية وانتقل مع عائلته إلى أمريكا وهو في الثامنة من العمر. وقد كان في السنة النهائية بقسم اللغة الانكليزية، كما كانت أخته تدرس بجامعة برنستون التي تصنف الأولى بين الجامعات الأمريكية. لقد كانت هذه الحادثة أسوأ مأساة عنف في تاريخ الجامعات الأمريكية، ومنذ ذلك التاريخ تكررت بشكل مرعب مآسي اطلاق الرصاص في المدارس والجامعات. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يؤدي إلى تكرار حوادث اطلاق الرصاص في المدارس والجامعات مع الانتحار؟ هل الحقد؟ وما أسباب هذا الحقد؟ أم هو الجنون؟ وما أسباب هذا الجنون؟ في اليوم الثامن والعشرين من شهر مايو عام 2007 وجدت الشرطة وزير الزراعة الياباني مشنوقا على أحد أبواب شقته، فقد انتحر بعد الانتقاد الشديد الذي وجهه إليه على الشكوك التي حامت حوله في قضايا مالية «بسيطة» في حملته الانتخابية. وقد كتب في مذكرة للشعب الياباني ولرئيس وزرائه يقول: «أعتذر من كل قلبي للشعب الياباني ولرئيس وزرائه، عن الزوبعة التي سببتها، بسبب جهالتي وقلة عفتي، وأرجو أن ترأفوا بالذين سأفتقدهم». والسؤال المحير: كيف يقوم مسؤول بهذه المرتبة بالانتحار لشكوك لم تدرس ولم تثبت؟ يعتقد متخصصو العلوم النفسية أن الانتحار هو اضطراب نفسي، يترافق بصعوبة التعامل مع الاكتئاب. ويمكن تحريضه بالرغبة لاختبار معزة المحبين، أو الانتقام بخلق شعور الذنب لدى المقربين، وذلك بسب عدم المواساة في حالة الضرورة. وقد يكون اسلوبا للتخلص من المعاناة أو حماية الكرامة والشرف. فمن المعروف أن بعض اليهود توجهوا إلى وسيلة الانتحار لتجنب اهانات جيوش الروم ليتركوا ديانتهم. كما أستعمل الرهبان البوذيين الانتحار كوسيلة للمعارضة الاجتماعية. وفي اليابان، اعتبر عساكر الساموراي الانتحار أسلوبا لتأكيد الولاء للرؤساء، كما برزت إبان الحرب العالمية الثانية ظاهرة الطيارين الانتحاريين اليابانيين المسماة «الكامي كازه»، كتأكيد للشجاعة والاستعداد للتضحية للوطن لانتصار اليابان. واليوم تبرز ظاهرة الانتحاريين السوداء في الشرق الأوسط عند بعض الفئات السياسية الإرهابية كوسيلة يعتقد البعض أنها ستخلص المنطقة من الغزو والظلم. ومن المعروف أن جميع الاديان السماوية تحرم الانتحار، بل تعتبره قوانين بعض الدول جريمة يحاسب عليها القانون. والانتحار معضلة خطرة في الدول المتطورة، وتعتبر نسب الانتحار في اليابان من أحد أعلى النسب في العالم. وقد أصبح موضوع الانتحار مشكلة خطرة ومقلقة، وبالأخص بين اطفال المدارس اليابانية. وتبين رسائل الطلبة المنتحرين الموجهة إلى ذويهم بأن سبب انتحارهم هي المشاكل المدرسية. فقد أصبحت المدرسة مكانا صعبا للحياة لدى بعض الطلبة، كما أن من الأسباب الرئيسية للانتحار هو ضعف العلامات المدرسية، واستئساد بعض الطلبة على الطلبة الاضعف وإهانتهم. وقد تقدمت الحكومة اليابانية عدة مرات بتوصيات للوقاية من محاولات الانتحار بين الطلبة. وقد أكدت هذه التوصيات أن قرار الانتحار ليس قرارا فرديا، بل هو نتيجة الشعور بالاقصاء لأسباب اجتماعية واقتصادية عديدة، كما أكدت التوصيات أهمية الوقاية، وتطوير الاستشارات المدرسية، وتحسين البيئة الاجتماعية المدرسية. ومن الجدير بالذكر أن مشكلة الانتحار باليابان لها علاقة بالشعور بالواجب، والحياء والخجل والموت. فمن المعروف أن الشعب الياباني مرتبط بعقيدة الشنتو، وحينما يتوفى الشخص ترتفع روحه إلى السماء وتحوم حول الجبال والغابات والانهار. وحينما يموت الإنسان طاهرا من الذنوب تكون روحه مرتاحة ومريحة لأهله ومحبيه. وإذا أجرم يحتاج إلى أن يطهر روحه أولا بالاعتذار، وربما بالتنازل عن مركزه، وأحيانا بالانتحار. فالانتحار في العقلية اليابانية هو نوع من المسؤولية وتطهير النفس. ويعتبر الشعب الياباني التعرض للشك هو بحد ذاته جريمة. ويتحمل الفرد الياباني مسؤولية سلوكه الاجتماعي، ويحاسب نفسه بشكل غريب حينما يتعرض للاشتباه، حتى لو ثبت أن الاشتباه غير صحيح، كما أن الحياء والخجل من الأخطاء أمام المجتمع مشكلة أخرى معقدة في اليابان. فمثلا، أوقف أحد المهندسين عن العمل لاتهامه بتقليل نسبة الحديد في الخرسانة. وقد استمرت الصحافة في عرض تطورات القضية. وقد أوقفت الشركة التي يعمل بها هذا المهندس عن العمل، كما أخليت جميع المباني المشكوك فيها، استعدادا لهدمها. وحينما سجن المهندس قامت الزوجة بالانتحار عن زوجها المسجون لتطهير نفوس العائلة من الذنوب، مع أن لديها أطفالا صغارا، كما حام الشك حول أحد الأساتذة بتسريب أسئلة أحد الامتحانات المدرسية، فاختفى هذا المدرس، وقد اكتشفت جثته بعد شهر ووجد منتحرا مشنوقا في وسط الغابة. فقد تعتبر ظاهرة الانتحار ظاهرة ممقوته، ولكنها تدل في اليابان على الشعور بالمسؤولية والخجل من الخطأ أمام المجتمع. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما نسب الانتحار في وطننا العربي؟ وهل يحتاج إلى معالجة أسبابه والوقاية منه؟ ولنا لقاء.
مشاركة :