مصابة هي الولايات المتحدة الأمريكية بازدواج قاتل في الشخصية، سواء كانت فردية أو اعتباريه، تقول الشيئ وتفعل عكسه، في داخلها تضاد، بل تكافؤ للأضداد في الروح الواحدة، والعيش معها يشبه العيش على ضفاف النهر، كل أربع سنوات يمكن أن يأتي الفيضان ليغرق ويجرف ما تم بناؤه. أمريكا ترامب التي تتحدث الآن، وبلغة حاسمة حازمة لا تخطئ كأنها سيدة قيصر عن صفقة سلام تعدها للفلسطينيين والاسرائيليين، هي أول من يقوم بإغراق المنطقة في كآبة غير مسبوقة وإحباط لم يعرف منذ زمن النكسة عبر قراراتها غير الإنسانية. تصف الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها في الأدبيات الكلاسيكية بأنها مدينة فوق جبل تنير لمن دونها بأنوار الديمقراطية والإنسانية، وتلقى عليهم بظلال وارفة من المودة المتصلة ودعم المحتاج وإغاثة الملهوف، غير أن الواقع يشير الى أن ما سبق ربما كان في أوقات بعينها مجرد ستار لتحقيق أغراض أبعد ما تكون عما هو ظاهر. في أعقاب النكسة وقرار التقسيم عام 1948 وما خلفه من آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين احتلت عصابات الأتسل والأرجون دورهم واقتعلت كرومهم وزيتونهم، وأرسلتهم على طرقات ودروب الدول المجاورة، تأسست وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” بهدف مساعدتهم وايجاد فرص عمل لهم، وقد بدأت الوكالة فعليا بعملياتها في مايو/ أيار من العام 1950، ويتم تجديد مهمامها بشكل دوري. الأونروا من هذا المنطلق ليست مؤسسة أمريكية يستطيع ساكن البيت الأبيض أن يتلاعب بها، بل هي وكالة أممية تحصل على الدعم المادي عبر التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وإن كانت الحصة المالية الأكبر هي من نصيب الولايات المتحدة. ما الذي تقدمه الأونروا للفلسطيينين ويستدعي قرار وزارة الخارجية الأمريكية الأخير بقطع تمويلها أمريكيا مرة والى أجل غير مسمى؟ حكما.. إنها لا تقوم على دعم المقاومة المسلحة، أو التحريض على المحتل الاسرائيلي، لكنها تقدم خدمات من النوع الانساني الذي تتشدق به واشنطن صباح مساء كل يوم، خدمات تشمل نطاق التعليم والرعاية الصحية، الإغاثة والبنية التحتية، وتحسين أوضاع المخيمات، والدعم المجتمعي، عطفا على فتح مسارب للحياة من خلال فكرة القروض الصغيرة والميسرة، والاستجابة لحالات الطوارئ في أوقات النزاع المسلح. طويلا جدا حاججت أمريكا بقوتها الناعمة، وهو أمر لا ينكره أحد عليها، وقد كانت المساعدات المالية لبقية دول العالم احدى الأدوات الداعمة لسياساتها حول العالم برمته، ومن بين تلك الأموال كانت الأونروا تتلقى قرابة 50% من تمويلها من واشنطن، والتي قدمت العام 2016 نحو 368 مليون دولار. ما الذي تغير من ذلك الوقت في رئاسة باراك أوباما عن الوقت الحاضر، حيث يسكن البيت الأبيض رئيس لا دالة له على العمل السياسي، ولا يعرف غير فن عقد الصفقات، وإن كان الراوي يقول: إن هناك من أتى به ليعدل أو يقوم مسارات أخطا فيها أوباما، مسارات تعود مرة أخرى بأمريكا الى فكرة الهيمنة والسيطرة على القرن الحادي والعشرين برمته، وذلك بحسب خطة المحافظين الجدد التي بلوروها في نهاية العالم 1997؟ باختصار غير مخل.. نحن أمام رئاسة يمينية، قد لا تكون مغرقة الى أقصى اليمين، لكن ما لديها من قناعات يوضح أنها لا تعول كثيرا على مسائل القوى الناعمة، ولا تعرف سوى لغة القوة الخشنة، وهذا هو النموذج الذي تبعه ترامب مع كوريا الشمالية، ويتجلى أيضا بصورة أكثر وضوحا في التعاطي مع الملف الإيراني، حيث أقدم ترامب وبجرة قلم كما يقال على إلغاء مشاركة واشنطن في الاتفاقية النووية، ويبدو أن الآن حان موعد القضية الفلسطينية. منذ زمن حملته الانتخابية الرئاسية كان من الواضح جدا أننا أمام مرشح مرهون بقدرات القوى اليمينية الأمريكية الموالية لاسرائيل، وهذه تتجاوز مقررات ومقدرات اللوبي اليهودي في الداخل الأمريكي، وتصل الى جماعات اليمين المسيحي التي تقرأ النبوءات والكتب المقدسة بطريقة تختزلها كلها لصالح دولة اسرائيل في الحال والاستقبال، ولعل الإصرار غير المسبوق من قبل ترامب على الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لاسرائيل، ثم نقل السفارة الأمريكية الى زهرة المدائن على النحو الذي رأيناه ليس الا إيفاء لدين الناخبين من اليمين الأمريكي الذين حققوا للرجل حلمه بالدخول الى البيت الأبيض، تلك القصة التي كانت تبدو ضربا من ضروب الكوميدياء السوداء لو خبر بها أحد قبل عقد أو يزيد في الداخل الأمريكي. تتهم إدارة ترامب الأونروا بأن أنشطتها معيبة، ولهذا فإنها إذا كانت تمنح سابقا فهي الآن قادرة على أن تمنع، وما بين المنع والمنح، فيلذهب الفلسطينيون ما شاء لهم أن يذهبوا، وبخاصة إن لم يرضخوا لبنود الصفقة غير المباركة التي تعدها إدارة ترامب، تلك التي عرفت بصفقة القرن. يرفض الفلسطينيون والعرب من ورائهم أي تخلى عن السيادة العربية على القدس الشريف، ولا ثقة في سلطة احتلال تقوم صباح مساء كل يوم بعمليات تهويد للمدينة المقدسة ومحاولات جارية لا تنقطع لافراغها من سكانها الفلسطينيين الأصليين مسيحيين ومسلمين، ويرفضون كذلك أي محاولات التفاف على الثوابت، وفي المقدمة منها حق العودة الذي تقول الأنباء المتواترة من واشنطن ان جاريد كوشنير وغرينبلات لم يقيما له أي وزن في خططهما السلامية الواهية والمرفوضة قبل أن تظهر الى النور. ويبقى السؤال: هل بالأونروا وحدها يحيا الفلسطينيون؟ الشاهد أنه وإن كانت واشنطن تساهم بأكبر نسبة في تمويل الوكالة الا أن بقية العالم الرافض لتلك الأحادية الأمريكية يمكنه أن يفعل الشيئ الكثير في المقابل ورفضا لهذا التوجه الأمريكي، وهذا ما جرت به المقادير بالفعل حين أشار وزير خارجية المانيا “هيكو ماس” الى أن بلاده سوف تزيد من مساهماتها في الوكالة لأن أزمة التمويل فيها تغذي المشكلات، كما أن فقدان الأونروا لدورها يمكن أن يطلق العنان لسلسة من ردود الأفعال غير القابلة للسيطرة. ترامب عاقد صفقات لا دالة له على قراءة “صن تزو” وكتابه عن فن الحرب، وأهم وصية فيه أن تترك لعدوك مخرج ينفذ منه بكرامة أمام الآخرين، أما إن أطبقت عليه من كل الجهات فإنه حكما سينفجر فيك، حتى وإن ضحى بنفسه. لن يعدم الفلسطينيون دعما ماليا من أخوة وأشقاء في العروبة والإسلام، وآخرين في الإنسانية، في حين تخسر واشنطن التي اعتبرتها الرئاسة الفلسطينية خارج نطاق أي تسويات للسلام من الآن والى أن تتغير سياسات الازدواجية الأمريكية القاتلة.
مشاركة :