قال الشيخ صلاح الجودر خطيب جامع الخير في قلالي في خطبة الجمعة أمس: ها أنتم تشهدون عاماً هجرياً جديداً، جعلهُ اللهُ عام خيرٍ وبركةٍ وأمنٍ واستقرار، وجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والدين، وأعز الإسلام وأهله. يُستعذبُ مع بداية العام الهجري الحديث عن السيرة النبوية والهجرة المحمدية. إن سيرة نبيكم محمد بكل ما فيها من مواقف ووقائع، محلٌ لكل تأمل، وحقٌ لكل تدبُرِ، تأملٌ يُحركُ القلوب ويستثيرُ الهمم ويقودُ إلى العمل، وتدبرٌ يزيدُ في الإيمان ويُزكي الخُلق ويقوِمُ المسيرة. إن الحب الصادق للحبيب محمد يستدعي أصحاب النوايا الصادقة إلى الاستمساك بالأصول والتعلق بالتوجيهات، واتباع سنن النبيِ وهديه، علماً وعملاً، وعبادة وسلوكاً، قال تعالى: «قُل إن كنتم تُحبونَ اللهَ فاتبعوني يُحبِبكم اللهُ ويغفر لكم ذُنوبَكم والله غفورُ رحيم» (آل عمران: 31). ومن أبرز دروس الهجرة النبوية الشريفة تأصيل المفاهيم التي ركز عليها الشرع الحنيف حتى أصبحت مبدأً من مبادئه وقيمة أخلاقية راقية، إنها مفهوم التعايش السلمي، فقد أولاها الإسلام العناية القصوى، واعتمدها لمعالجة التنوع العقدي والفروقات المجتمعية التي كانت سائدة قبل الإسلام، فكانت نتيجة تلك الثقافة احتضان مختلف الرسالات والأديان والأفكار، مع التأكيد أن الإسلام خاتم الرسالات، وأن النبي محمد آخر الرسل، وأن الدين عند الله هو الإسلام. لقد كان لتوجيهات وإرشادات النبي دور أساسي في تطبيق مفهوم التعايش السلمي في القول والعمل، مما ساهم في نشر الإسلام وتعاليم الدين الحنيف، ومن يقف عند شذرات تلك المواقف الرحيمة يلمس بوضوح النزعة الإنسانية في شخصية النبي، كما يتجلى البعد الحضاري للدين الإسلامي، وأنه لم يأت لفئة من الناس دون غيرهم، ولكنه لجميع البشر في كل العصور والأزمان. لقد عاش رسول الله في مكة المكرمة وشعاره مع أصحابه السلم والتعايش، واستمر الحال كذلك في المدينة المنورة مع القبائل والجماعات حتى إنه لم يكره أحداً على الدين، ولم يقاتل قوماً مسالمين، لقد تعرض رسول الله في مكة إلى الاعتداءات المتكررة هو وأصحابه فماذا كان جوابه: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: 88-89)، وقال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63)، هذا هو المنهج الرباني في التعامل مع الغير تحت مفهوم التعايش السلمي. في المدينة النبوية كانت شواهد التعايش السلمي كثيرة، فقد كانت مزيجاً متنوعاً من البشر من حيث العقيدة والدين، والانتماء القبلي والعشائري، وفيها الانصار والمهاجرون، والأوس والخزرج، وفيها الوثنيون واليهود وغيرهم، لذا كان من الأهمية تعزيز التعايش السلمي بينهم لتستقيم حياتهم، لذلك يقول الإمام ابن القيم: «فلما بعث اللهُ رسولَه استجاب له ولخلفائه بعده أكثر أهل الأديان طوعاً واختياراً، ولم يكره أحداً قطُّ على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربُه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لأمر ربه سبحانه وتعالى حيث يقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256). ولقد استمر النبي حتى وفاته في تأصيل هذه القيمة الإنسانية، فعن أَنس قال: كان غُلامٌ يهودي يخدم النبي، فمرض، فأتاه النبي يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: (أسلم)، فنظر إلى أبيه، وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم ، فأسلم، فخرج النبي وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) (أحمد والبخاري وأبو داود). والكثير يقرأ هذا الحديث من منطلق الدعوة إلى الله، وقد نسي قيمة التعايش السلمي في هذا الحديث. لقد سار الخلفاء الراشدون على هذا الهدي النبوي الشريف، فكانوا أكثر الناس تمسكاً بحقوق أتباع الديانات الأخرى، ولقد كانت من أولى وصايا الخليفة أبي بكر الصديق ثقافة التعايش السلمي، فقال: (يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشرٍ فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فَرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له)، والخليفة عمر بن الخطاب حين دخل بيت المقدس وأخذ يمشي في طرقاتها مع البطريرك صفرونيوس حتى دخل كنيسة القيامة فأعطى أهلها الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بيعهم.. كل ذلك جاء في الوثيقة العمرية لحقوق الإنسان. عباد الله، العالم اليوم في حاجة ماسة الى استجلاء سيرة النبي وآل بيته وأصحابه، وتوظيفها بما يعزز أمن واستقرار الدول والمجتمعات. ووطنكم العزيز قائم منذ القدم على قيمة التعايش السلمي، وقد تعززت هذه القيمة مع ميثاق العمل الوطني والمشروع الإصلاحي، لذا يعيش الناس في أحياء متداخلة رغم اختلاف الأديان والمذاهب والثقافات، وهذه الصورة التعايشية الجميلة تفتقدها الكثير من المجتمعات، لذا حري بكل مواطن ومقيم أن يحافظ على قيمة التعايش وتعزيزها لما لها من أثر كبير في تعزيز الأمن والاستقرار، وكذلك استقطاب رؤوس الأموال لتوظيفها في الاقتصاد البحريني. حفظ الله البحرين بقيادة عاهل البلاد المفدى الملك حمد بن عيسى آل خليفة وحكومته الرشيدة برئاسة سمو الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة وولي العهد سمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة وشعب البحرين والمقيمين فيها. فاتقوا الله يرحمكم الله، واعرفوا نعم الله عليكم، واشكروها وأصلحوا ذات بينكم، وتوجهوا إلى ربكم، واسألوه من فضله، وكونوا عباد الله إخواناً.
مشاركة :