سألني ذات مرة دبلوماسي من منطقة الشرق الأوسط عن رأيي في أهم فرق لاحظته بين منطقة الشرق الأوسط واليابان وكان ردي: «اليابانيون درسوا تاريخهم بدقة ونزاهة وصدق، وبطريقة علمية بحثية دقيقة، وحاولوا تجنب أخطائه، بينما شعوب منطقة الشرق الأوسط تخاف أن تدرس تاريخها علميا حتى الآن، لذلك تكرر نفس الأخطاء عقدا بعد عقد، وقرنا بعد قرن». فهل تعلم عزيزي القارئ أن الأبحاث اليابانية بينت أن طريقة انتقال المعلومة بين عقول البشر لا تعتمد إلا على 7% من الكلمات التي ننطق بها أو نكتبها، بينما 38% منها تعتمد على نبرة الصوت، 55% على تعابير الوجه والجسم، حينما تنطلق الكلمات من شفاهنا؛ لذلك لا يعتمد اليابانيون على الكلمات التي يسمعونها أو يقرأونها، فهي لا تعني الكثير لديهم لأنها تمثل فقط 7% مما في عقل الإنسان، بل يعتمدون على نبرة الصوت وتعابير الوجه ولغة الجسم لكي يعرفوا ما بعقل الشخص المتكلم. ولذلك يشكو البعض حين يجتمعون مع اليابانيين من أنهم ينامون في الاجتماعات ولا يتكلمون، بل يكررون فقط كلمة هاي هاي هاي، بينما في الحقيقة يغمض الياباني نصف جفنيه جزئيا لكي يركز فيما يعنيه المتحدث، في عقله لا بحروف كلامه، ومع أن عينيه تبدو مغمضة، ولكنه يتعمق في دراسة نبرة الصوت، وتعابير الوجه والجسم، لكي يعرف ما يعنيه الشخص في عقله، وليس ما يقوله بلسانه، بينما يستخدم كلمة «هاي» لتعني أنني فهمت ما تقوله، ولا تعني أنني موافق على ما تقوله. بينما نحن في منطقة الشرق الأوسط ننصت قليلا لنسمع بأذننا، ونتكلم كثيرا انفعالا، ونفهم معنى ما يقوله الشخص من خلال شفتيه لا عقله، ولا نركز على دراسة نبرة الصوت كثيرا، ولا على حركات الوجه والجسم، والتي هي في الأساس علم مهم جدا لتعلم التواصل بين البشر. وطبعا هذا واضح جدا حينما نحاول تفسير تاريخنا، بل حتى أحاديث ديننا، لذلك تجد خلافاتنا في السياسة والتاريخ والعقائد الدينية عميقة، وقد عبر عن ذلك وزير الحرب الإسرائيلي، موشى ديان، الذي قاد الجيش الإسرائيلي في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967. وحقق انتصارا تاريخيا لبلده، وهزيمة نكراء للعرب بأن: «العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون». ومع الأسف الشديد يكرر التاريخ نفسه في منطقة الشرق الأوسط، وقد يكون ذلك واضحا في تصريحات الزعامة الإيرانية عن طائرتها الحربية الجديدة، وصواريخها التي تهبها لعملائها «الثوريين»، ومغامرات امتداد قوتها في الشرق الأوسط في بغداد ودمشق وبيروت وغزة، بينما يعاني شعبها من تخلف اقتصادي مرعب، بحيث وصلت قيمة الدولار الأمريكي إلى أكثر من مائة وسبعة وستين ألف ريال إيراني، والذي كان يساوي في عهد الشاه في عام 1973 حوالي 68 ريالا. وحينما يشكو الشعب الإيراني من الوضع المتردي يعلق على المشانق الإلكترونية في وسط ساحات المدن بكل صفاقة وانعدام الإنسانية. فلم تستوعب حتى الآن الزعامة بأن السبب الرئيسي في زوال نظام الشاه الإيراني، هو انشغال ملكه رضا شاه بهلوي بجمع الأسلحة الأمريكية، على حساب قوت شعبه، ليكون زعيم الشرق الأوسط الأوحد. كما لم يستفيدوا أيضا من أخطاء العرب، ولنتذكر يوم 13 مايو من عام 1967 حين قرر الرئيس جمال عبدالناصر غلق مضائق تيران، بعد أن وصله خبر بعزم إسرائيل على الهجوم على سوريا، ردا على توقيعها اتفاق الدفاع المشترك مع مصر، ومع انه ثبت كذب الخبر، قرر عبدالناصر المضي في معركته، لتنتهي بالتعبئة الإسرائيلية، وهجومها المباغت المفاجئ، وهزيمة عام 1967 المخجلة، وذلك بتدمير إسرائيل للدفاعات المصرية والسورية والأردنية، مع استيلائها على سيناء وغزة والجولان والضفة الغربية، مع احتلال تيران وصنافير، ولتكن أكبر هزيمة سيكولوجية للشعب العربي، ما أدى بالكثير من الشباب إلى النكوص عن الفكر التقدمي والتوجه نحو الأفكار الراديكالية اليمينية المتطرفة، كما لم تستفد هذه الثيوقراطية من أخطاء النظام العراقي السابق، بإعطاء الانطباع بأنه يملك أسلحة دمار تقضي على إسرائيل، ليتوجه بغزوه إلى دولة الكويت، ولتنتهي هذه المغامرات بالغزو الأمريكي ودمار العراق، وانتشار الفكر الطائفي والداعشي. يبدو أن الزعامة الثيوقراطية الإيرانية لم تتعلم من التاريخ المخجل للزعامات الثورية في الشرق الأوسط، وأن السياسة آيديولوجية فكرية أو طائفية مطلقة، بل فن التعامل النسبي، وأن الدين هو طهارة روحية سامية، بينما السياسة متقلبة وزائلة، وتحتاج إلى خبث وذكاء، ولا تناسب روحانيات رجال الدين، وقد أكد ذلك آية الله منتظري للزعيم السياسي الإيراني الخميني، معارضا لبدعة ولاية الفقيه، ليضعه تحت حبس إجباري في بيته حتى مماته، ويبقى السؤال: هل ستنتهي هذه العنتريات بدمار جديد في الشرق الأوسط، لتكرر مآسي الهزائم في مصر والعراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن، وبهزيمة دمار أخرى في إيران، وليعاني من تبعاتها الاقتصادية والأمنية الشعب الإيراني، وجميع دولنا العربية ومنطقة الشرق الاوسط؟ يبدو عزيزي القارئ أن هذه الزعامات الشرق أوسطية الثورية والآيديولوجية تستلم الحكم، ليس لتحقيق التنمية المستدامة لشعوبها، بتوفير الوظيفة والرعاية التعليمية والصحية والإسكانية، ونظام تقاعد وتعطل لشعوبها، بل لكي «تسكر» بأحلام ثورية خيالية باهتة، من التوحيد الاممي للعالم، إلى توحيد المسلمين في دولة ثيوقراطية أو داعشية، أو بحلم وحدة للعرب، بل لكي تنتهي أخيرا ثوراتها إلى انقلابات متكررة، ولتترافق بإرهاصات آيديولوجياتها الخيالية، ليدفع شعوبها ثمن البطالة وانتشار الإهانة والذل والجوع والفقر والجهل والمرض. والجدير بالذكر أن مملكة البحرين الجميلة لم تنج من هذه الأنواع من القيادات «الثورية» المتطرفة المعارضة، وخاصة مع فترة وباء، ما سمي بثورات الربيع العربي، ولولا حكمة وحزم وصبر القيادة، ودعم الدول الخليجية والعربية الصديقة، لعانت هذه المملكة الصغيرة الجميلة من مآسي ودمار هذه المغامرات الآيديولوجية اللا شرعية «الثورية». ولنتذكر أن مملكة البحرين ستعيش تكرار عرسها الديمقراطي، بتوجه جماهير شعبها إلى انتخاب المجلس النيابي في شهر نوفمبر القادم، وقد نحتاج إلى دراسة تجربة نصف قرن من التقدم والتطور والإصلاح، بعد انتهاء مرحلة الحماية البريطانية في عام 1971. وبعد قرار الدولة بأن تلتزم بنظام رأسمالي ذي مسؤولية مجتمعية، حيث تحافظ على الحرية الشخصية لتملك رأس المال، مع توفير شبكة حماية اجتماعية تجمع بين الرعاية الصحية والتعليمية المجانية، ونظام حماية إسكانية وتقاعدية مع تأمين للبطالة، ومحاولة توفير فرص العمل لكل مواطن. كما استفادت الحكومة من العلاقات التاريخية البحرينية مع بريطانيا لتطوير الرعاية الصحية والتعليمية، ونظام الخدمة المدنية، ونظم الاتصالات والمواصلات والمرور. وقد استمرت هذه التجربة في التقدم والتطور مع بدايات الألفية الثالثة، حيث وافق 98.4% من شعب البحرين على ميثاق وطني، تتحول فيه دولة البحرين إلى مملكة دستورية تجمع بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ومع الأسف لتبدأ هذه التجربة بمقاطعة المعارضة «الثورية» المتطرفة للانتخابات النيابية عام 2001. بحجة أن جزءا من البرلمان الوطني (مجلس الشورى) معين، أو ما يسمى في اليابان بمجلس المستشارين، وفي بريطانيا بمجلس اللوردات، مع أن كثيرا من ديمقراطيات اليوم العريقة بدأت بنفس هذه التجربة، حتى تتطور الثقافة الديمقراطية وتجذرت أصولها. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل أصبحت الثورة في الألفية الثالثة انفعالا وداءً جماهيريا مدمرا، يعطل التنمية المستدامة في زمن التكنولوجيات السريعة والذكاء الآلي، ويخلخل الأمن والاستقرار والسلام، لتصبح جهود الوقاية منها واجبة، لمنع استخدامها كعلاج للإصلاح، أو بصورة أخرى هل انتهى عهد الثورات؟
مشاركة :