كاريكاتور سياسي يصور الملامح النفسية ويبرز قسمات الداخل وما يخترقها مِن حواف وهوامش تجوب المحيط الكوني وتطويه. إنها الشفرة البوتينية التي خطّها الأكاديمي في جامعة سراكيوز الأميركية براين تايلور في أحدث أطروحاته التي لم تخرج سيناريوات قمة هلسنكي عن أطرها، وقد خاض تايلور في تحليل تلك الشفرة معتمداً منهج عالم الاجتماع ماكس فيبر الذي لا يعلق تفسير تصرفات الزعماء والقادة على مسار الدوافع العقلانية فحسب، وإنما يرتكز على عاداتهم ومشاعرهم، وقبل ذلك كانت طريقة التفكير وهندسته هي أهم ما يعنيه. ومن ذلك قرارات بوتين وسياساته التي تظل محكومة برؤيته نحو أن تكون روسيا قوة عظمى، ويؤازره في ذلك إحساسه الغاضب تجاه الغرب عموماً وأميركا خصوصاً، وعلى ذلك فالبوتينية هي أسلوب في الحكم يتحدد وفق رؤية شخصية وفي لحظة تاريخية معينة. واستوثق تايلور من ذلك حين أخضع أحاديث بوتين على اختلاف مناحيها لتحليل محتواها وما تعكسه من رؤى وتوجهات وأفكار وميول ومشاعر. من ثم ففك الشفرة البوتينية إنما يعتمد على ممارسة سياسية تجمع بين الاحتواء والمشاركة، وهو ما يدفع نحو فهم سياسة روسيا الخارجية ويعد عاملاً مهماً في إدارة العلاقات الثنائية. ومن هنا فقد جاء مشهد هلسنكي مطابقاً إلى حد بعيد لأبعاد رؤية تايلور حيث تصدرت قضية المراهنة التاريخية المتضادة فكراً وممارسة، مع جوهر مبادئ وقيم العدالة والحرية والحق والسلام، والمنافية لأسس وأبعاد الاستراتيجيات الكبرى. نعم الحفاظ على أمن الدولة العبرية كان هو القضية التي سجلت بصمة جديدة في قمة هلسنكي، أو قمة النقاط المؤلمة كما أطلق عليها بوتين، في إشارة قوية إلى تلك الفجوة الخلافية المطردة سياسياً واستراتيجياً بين أقطاب الكوكب الأرضي. فلم تقو أميركا مطلقاً على تحييدها باعتبارها القضية المقتحمة لأخاديد العقل السياسي منذ جورج واشنطن وحتى ترامب، وستظل مستأثرة بذلك العقل الأحادي المنكفئ على ذاته والمطيح بالكثير والكثير من الفرص التاريخية السامحة لسيادة الاستقرار الدولي وشيوع الروح الإنسانية. والمتأمل في مسار تلك القمة وتوجهاتها يجد أنها قمة أميركية خالصة اختزلت في مطالب لا بد أن تنهض بها روسيا وكان أولها: الحث على التعاون الفعال في شأن تفكيك الأزمة السورية وضرورة الضغط على إيران لسحق إرادتها النووية، حين تعصف أميركا بذلك الاتفاق وتمنح المعاذير في السعي نحو إلغاؤه ومحوه، أما آخرها فلم يكن غير محاولة دؤوبة لاجتذاب روسيا كقوة مؤثرة في المحيط الدولي تستطيع دعم الحماية الأبدية لأمن إسرائيل بعد تنفيذ ما يسمى بصفقة القرن، إلى غير ذلك من النفي القاطع للأسباب والبواعث وراء تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بينما أعرب الجانب الروسي سابقاً عن إرادته الجامحة في فوز ترامب، ما أشعل الساحة الأميركية التي اعتبرت أن الأداء السياسي لترامب في تلك القمة كان خطأ مأسوياً، وأن روسيا ليست حليفاً استراتيجياً، وأن القمة دفعت بأميركا إلى الوراء وزحزحت وضعيتها التفاوضية، ولم تقدم حلولاً موقتة أو ناجعة في لحظة غوص عالمنا المعاصر في كم هائل من المشكلات الحادة والتأزمات القاتلة. وعلى ذلك مثلت هلسنكي بالنسبة إلى العالم قمة للخلاف والانشقاق أكثر من كونها قمة للاتفاق والتآلف والحرص على المصالح الكونية، ذلك نظراً للانشقاق الجائر على القضايا المرتبطة بحقوق الدول والشعوب، والدعوة المارقة للتحلل من الاتفاقات المبرمة مع إيران، وتأييداً للممارسات الاسرائيلية بتوفير ودعم الحماية المطلقة لها والتغني على أطلال المسرح السوري. تلك هي النقاط المؤلمة وفق توصيف بوتين، وتلك هي نتائج من لقاء أطراف القيادة الكونية في نهاية العقد الثاني من هذا القرن. إن كل قضية تم طرحها في تلك القمة إنما تستحضر عشرات الأسئلة، لكن يمكن الاكتفاء ببعض منها على نحو: هل تحتاج إسرائيل إلى مزيد من الحماية الأمنية وهي تمتلك أكبر الترسانات النووية؟ وممن تكون هذه الحماية؟ وما هي الاعتداءات التي تستوجب حمايتها منها؟ وكيف تكون الحماية وقد أوشكت محاور المشروع الصهيوني نحو الاقتراب من بؤرة الهدف؟ وكيف تتحول آلية الصراع على الأراضي السورية إلى مشروع اتفاق ثنائي؟ وكيف لدولة أن تنسحب من اتفاقاتها ومعاهدتها من دون مرجعيات سلبية أو رؤية تصحيحية تخول لها ذلك؟ ولعل ضمن الغرائبيات تلك التوقعات القائلة بأن القمة استهدفت تستهدف استعادة الثنائية القطبية أملاً في تحجيم التمدد الصيني. والسؤال كيف لأميركا التي طمست معالم الثنائية القطبية، ودأبت على نسفها أن تجدد الخصومة السياسية والاستراتيجية، وتخلق من الآخر حليفاً وربما منافساً شرساً يستطيع ذات آن أن يحيلها إلى طاقة مستأنسة؟ وأياً من الكيانات الدولية المعاصرة يستطيع أن يتصدى للمارد الصيني وقد بلغ مكانة مروعة في مدارج التسابق الحضاري؟ وهل كان الدافع وراء شن حرب تجارية ضارية ضد كل من الصين وروسيا كونهما يعدان المصدر الأول للتهديد طبقاً لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي؟ وهل كان تفعيل استراتيجية تفكيك الاتحاد الأوروبي وراء بروز شعار أوروبا الموحدة تصدياً لشعار أميركا أولاً؟ قمة هلسنكي لم تطرح جديداً ولم تدفع بالقضايا الدولية الحيوية خطوة استراتيجية يمكن الإشادة بها، وإنما جددت الصراعات التي ستتجلى آثارها بين لحظة وأخرى، لكن هل تنقل عالمنا العربي من موقع المشاهدة إلى دوائر المشاركة؟ * كاتب مصري
مشاركة :