كتّابٌ كثيرون كتبوا عشرات الروايات ولم يشتهروا وربما لم يتحدث عن رواياتهم أحد. رحلوا وما عاد يتذكرهم أحد وكأنهم لم يكتبوا يومًا. هذا الرجل كتب روايةً واحدة فقط فقامت الدنيا ولم تقعد منذ أكثر من مائتي سنة. إنها رواية «بطل من هذا الزمان» لميخائيل ليرمانتوف الذي ولد في موسكو عام 1814م. اشتهر ليرمانتوف كشاعر كبير كان يحسب في المرتبة الثانية بعد شاعر روسيا العظيم بوشكين وكتب الكثير من القصائد كـ«أسير القوقاز»، «الشركسي»، «الشيطان» وغيرها، وألف أيضًا مسرحيتين هما «حفلة تنكرية» و«الشقيقان»، لكنه اشتهر على الصعيد العالمي بروايته «بطل من هذا الزمان» التي صدرت عام 1840م قبل وفاته بسنة واحدة وكانت روايته الوحيدة لكن الرواية العظيمة التي انتشرت بشكل استثنائي وترجمها إلى العربية عاشق الأدب الروسي الراحل سامي الدروبي وهو سوري الجنسية. إنها رواية خالدة ما زالت تنبض بالحياة حتى يومنا هذا على الرغم من السنين الطويلة. تصور هذه الرواية واقع روسيا القيصرية في زمن إمبراطورية نيقولاي الأول، حين كان الشباب محبطين لا أمل لهم في التغيير، ولا في المستقبل، كل هذا يتجسد من خلال شخصية بيتشورين الذكي والمثقف والوحيد التعيس في الوقت نفسه بعدما فقد كل أمل في تحقيق أحلامه، وعجزه عن تذوق الحب أو الصداقة. قال ليرمانتوف عن روايته هذه: «إن «بطل من هذا الزمان» صورة حقًا، ولكنها ليست صورة رجل واحد. إنها صورة تضم رذائل جيلنا كله...». تدور أحداث الرواية بين عامي 1827 و1833. على ضفاف البحر الأسود ومنطقة القوقاز، عبر سلسلة فصول تتناول السيرة المضطربة لضابط روسي شاب يدعى جريجوري بيتشورين، وذلك بتناوب بين الراوي وسرد بضمير المتكلم. هذه الرواية كانت سببًا في نفيه مرتين بسبب حديثه عن أوضاع الشباب ونقمهم على الحياة التي يعيشونها. يتفقُ الكثير من النقاد الروس والأوروبيين على أن «بطل من هذا الزمان» رواية فارقة في تاريخ الأدب العالمي، سواء من حيث الطريقة التي كُتبت بها، أو حتى التقنيات الروائية المستخدمة والتي لم تكن مألوفة في تلك الفترة، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك ويقول إن ليرمانتوف الشاعر المرهف والروائي المتمكن الذي كتب رواية واحدة فقط أوصلته إلى الخلود الأدبي لو عاش أكثر لربما تفوَّق على تولستوي ودستويفسكي وعلى كثير من الأدباء الروس المرموقين. كان ليرمانتوف يعشق بوشكين كثيرًا وتأثَّر كثيرًا لمقتله أثناء مبارزة له مع شاب فرنسي حين دعاه بوشكين إلى المبارزة دفاعًا عن شرفه حينما تسلم رسائل تتحدث عن علاقته مع زوجته. فكتب ليرمانتوف قصيدة «موت شاعر» التي انتشرت بشكل كبير معبرًا عن غضبه وحزنه على شاعر روسيا الكبير: مات الشاعر سَقَط شهيدًا أسيرًا للشرفِ .*** يا من نَفَختُم في الَّلهَب الخَامِد حَتَّى فَورة الغَضَبِ المُفَاجِئ فَلتَبتهجوا إذن فَلَقَد كان صَفَاءُ الألَمِ فَوق طَاقَةِ الاحتِمَال .*** واشهَدُوا الآن أنَّ قندِيل العَبقَرِيةِ انطَفَأ وإكليل الغَارِ على جَبهَتِه يَذوِي لَم يعرف القَاتِلُ التَّردُّد وَهو يُصوبُ في برود... لا طَلقَة واحدة أخطَأَت القَلب وَلا وَحي مُنقذ أَرعَش البُندُقِية في اليدِ الوَحشِيَّة أثار احتجاج ليرمانتوف على مقتل الشاعر العظيم في شهر فبراير 1837 غضب السلطات وقررت اعتقاله ونفيه إلى منطقة القوقاز بعد إجراء تحقيق معه عقابًا على قصيدته التي تداولها الناس في جميع أنحاء روسيا وخاصة أنه كان يرى في مصرع بوشكين فخًا نصب له للتخلص منه ومن أشعاره. وفي منفاه النائي مارس ليرمانتوف إلى جانب كتابة الشعر الرسم بالألوان المائية والزيتية وأبدع الكثير من اللوحات الرائعة. استطاع ليرمنتوف العودة من منفاه إلى مدينة بطرسبرغ بفضل مساعي جدته بالدرجة الأولى بسبب علاقاتها الواسعة. توقف ليرمانتوف في بياتيغورسك للعلاج. وفي هذه المنطقة تشاجر الشاعر مع زميله في الدراسة مارتينوف وقتل في مبارزة معه في أواخر يوليو 1841م. كانت هذه المبارزة حادثة يلفها الغموض وغالبًا كانت عملية مدبرة للتخلص منه على خطى سلفه بوشكين. رحل ليرمانتوف في ريعان شبابه وعمره 27 سنة تاركًا خلفه حياة أدبية وإبداعية عظيمة لم تتجاوز 13 سنة وكلمات أشعاره تحكي عنه: سنظلُ نشربُ من نبعِ الحياة وعيوننا مُغمضة وسنظل نسقي أوراق الذهب بكل ما لدينا من دُموع. *** وقبيل الموت نَصحو فجأةً وينزاحُ القناعُ ونفتح عيوننا، فإذا الكل وهم حتى ذاك الذي كان من هنيهة يبهرنا *** وهمًا ستراها تلك الأجمّة المذهَّبة وهما كبيرًا، ثمّ فراغا وسيبدو لنا عبثًا كل ما شربناهُ على نخبها من كؤوس آه …هذه الدنيا، ليست لنا. Alqaed2@gmail.com
مشاركة :