الدكتور ربيع حسين يكتب: في بيتنا.. رمضان

  • 5/6/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

عزيزي القارىء، سوف أعود بك إلى مراحل طفولتي، حيث كنت أعيش بين أبي وأمي وإخوتي وأخواتي، وكان شهر رمضان له مذاق خاص، وإلى الآن تدور في خواطري مشاهد رمضان في تلك الأيام، وسوف أعرض لكم بعضا من تلك المشاهد خلال السطور التالية: المشهد الأول: هل هلاله.. بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، كان والدي، رحمه الله، يأخذني (مع أخي الذي يكبرني مباشرة) إلى مكان فسيح بين الحقول (الغيطان)، نتحرى رؤية هلال شهر رمضان، ورغم أنه يعلم أن رؤية الهلال بالعين المجردة أمر صعب للغاية (بل يكاد يكون مستحيلا)، إلا أنه كان يحافظ على تلك السُّنّة ، في ذلك الموقف كانت تغمرني مشاعر مختلطة، مشاعر الرهبة والرغبة، الرهبة من ظلام الحقول وتمايل الأشجار ونقيق الضفادع وصوت صرصور الحقل (صرصار الغيط)، والرغبة في أن يستمر هذا المشهد إلى أن نرى الهلال، وبالطبع كنا لا نراه، فنرجع إلى البيت كي نتابع حفل تحري رؤية هلال شهر رمضان. المشهد الثاني: حالو يا حالو.. بعد ثبوت رؤية هلال شهر رمضان، وفي أول ليلة من لياليه الكرام، أخرج مع أقراني من “ولاد الحتة” أي الأطفال الذين يسكنون نفس الحي الذي نشأت فيه، وكل منا يمسك فانوسه الخاص، وقد كان فانوسي ذا إطار معدني، وله جوانب زجاجية، توضع بداخله شمعة موقدة من خلال باب صغير في أحد جوانبه، ويصدر عن الشمعة ضوء جميل يتمايل مع تمايل لهب الشمعة، وكنا نسرح سويا في شوارع “الحتة” منشدين “حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو.. حل الكيس وإدينا بقشيش يا تروح ماتجيش يا حالو”. المشهد الثالث: أهلا رمضان.. في اليوم الأول من شهر رمضان، نجتمع نحن “ولاد الحتة” لصنع “زينة رمضان”، حيث نأتي بأوراق الكراسات القديمة والصحف القديمة، ونصنع عجينا من الدقيق والماء (فلم يكن لدينا من المال ما يكفي لشراء الصمغ) ونلصق قطع الورق في شكل حلقات متداخلة في بعضها البعض، نصنع منها سلسلة ورقية كبيرة نقوم بتعليقها على واجهات المنازل “زينة على قد حالنا”. المشهد الرابع: إصحا يا ناااايم إصحااااا.. من مشاهد شهر رمضان الراسخة منذ زمن طويل “المسحراتي” وهو شخص يحمل “طبلة” كبيرة يقوم بالضرب عليها فتصدر صوتا شديدا يوقظ النائمين للسحور، وينادي على أهل الحي، “إصحا يا حاج حسين” “إصحا يا نايم وحّد الدايم” “السحور يا عباد الله” وهكذا يجوب الشوارع يوقظ الناس للسحور وصلاة الفجر، وكنا “ولاد الحتة” نخرج من البيوت ونمشي خلف “المسحراتي” ونردد ما يقول ونحن فرحين، فهو مشهد لا يتكرر إلا من العام للعام. المشهد الخامس: في السحور بركة.. كان أبي هو أول من يستيقظ للسحور، وكان يوقظ أهل البيت واحدا واحدا، وكان يأتيني والنوم يملأ جفوني “إصحا يا ربيع”، فأقول له “سيبني شوية يابا ” فيصر قائلا “قوم يا ربيع الفجر قرّب يأذن” وبعد مداولات.. أستسلم وأقوم لتناول السحور، وكان السحور يتكون من الفول المدمس والبيض المسلوق والجبن الأبيض وبعض المقليات والسلطة الخضراء وغيرها من الأكلات البسيطة اللذيذة، لذة لا تجدها في الفنادق الفارهة. المشهد السادس: البلح المبلول.. كانت مهمتي المنزلية الأهم في نهار رمضان هى عمل “البلح المبلول” وأقوم بهذه المهمة من بعد صلاة الظهر، حيث أقوم بتنظيف البلح الجاف ثم أقوم بنقعه في الماء النظيف، إلى موعد الإفطار، فيصبح طريا سائغا للآكلين وشرابه حلوا سائغا للشاربين، وهو ما نستفتح به وجبة الإفطار. المشهد السابع: المدفع ضرب.. كان من مهامي أيضاً الخروج من المنزل قبيل وقت المغرب وتحري سماع صوت مدفع الإفطار، وكنت أجتمع مع “ولاد الحتة” في مكان فسيح، ننتظر أن ينطلق مدفع الإفطار، وحين نسمع “بووووم” ننطلق مسرعين، كل منا إلى بيته، وأدخل دارنا قائلا “هييييييه، المدفع ضرررررب”. المشهد الثامن: طبلية الفطار.. كانت مائدتنا عبارة عن “طبلية” مصنوعة من الخشب، تتزين بألوان الطعام الذي أعدته أمي، رحمها الله، وما أدراك ما طبيخ أمي، بسيط، متنوع، لذيذ، ذو نكهة خاصة، وكنت أهجم على طعام الإفطار هجوم الفاتحين ، وكأني “ربيع الدين الأيوبي”، وبما أني أصغر أفراد الأسرة (آخر العنقود.. سكر معقود) فلي الأولوية في أن أختار ما شئت من ألوان الطعام وعلى الجميع أن يلبوا طلباتي “شبيك لبيك يا عم ربيع”. المشهد التاسع : في الليل يحلو اللعب.. بعد صلاة التراويح، أجتمع مع “ولاد الحتة” للعب أشكال مختلفة من الألعاب الجماعية، مثل “استغماية”، “ضربونا – بونا”، “الملك”، أو نجلس نتبادل أطراف الحديث عما دار في نهار رمضان وما يحدث داخل البيوت وما شاهدنا في التلفزيون، وغير ذلك من قصص وحكايات الأطفال، ومن هؤلاء (محمد الشيمي، جمعة عبدالغفار، محمد الدباش، صلاح شلابي، علي عسكر، محمود عسكر، سمير الفارس، سعيد علام، وغيرهم) وقد تستمر جلسة السمر في بعض الأحيان إلى وقت السحور. وفي الختام، عزيزي القارىء، ما زالت مشاهد رمضان في بيتنا، محفورة في ذهني، تلمع بين الحين والآخر، تذكّرني بأيام الطفولة وما فيها من براءة وتلقائية.. بس كدا.. حياكم الله. ملحوظة: الكلمات العامية، أسوقها من قبيل المرح والفكاهة، ولا أراعي فيها قواعد العربية الفصحى. كتبه: الدكتور ربيع حسين مستشار سيكولوجي إكلينيكي مستشار التدريب والمحاضر الدولي مستشار تطوير المهارات والقدرات مستشار العلاقات الأسرية.

مشاركة :