بقدر ما يُمثل الاختلاف سلوكاً بشرياً بقدر ما يُمثل في الوقت نفسه سنة كونية لا تستقيم حياة عموم البشر إلا بها، مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا من رحم ربك وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) فيما اعتبره ابن القيم يرحمه الله ضرورة حتمية لما بين الناس من تفاوت في إيراداتهم ومداركهم وأفهامهم، والاختلاف في المصطلح العام يعني التباين في الرأي والمغايرة في الطرح وقد أجمع علماء الفكر الإسلامي على أنه مدخل للحوار؛ أما الخلاف والذي يُشكل جزءً لا يتجزأ من منظومته، فهو يعني المعارضة والتعصب للرأي، وفي كتاب الله العزيز آيات تشير لذلك، ومنها قوله تعالى (ذلك بأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ وأن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد). أما أبرز مسببات الاختلاف والخلاف، فيأتي أولاً البغي واتباع الهوى والتعصب للرأي والنقد وعدم تقبل وجهات نظر الطرف الآخر، يليها عدم فهم النصوص الشرعية أو القانونية أو النظامية وما تعارف عليه أفراد المجتمع من عادات وتقاليد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور..) فيما ذهب الدار قطني يرحمه الله للقول: بأن الله تعالى قد حد حدوداً، فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها، فالاختلاف إذاً يُمكن أن يكون محموداً ويُساهم في تحقيق التكامل والتناغم والانسجام واكتساب الخبرات وتلاقح الأفكار الهادفة بين الناس، ويمكن أن يكون على النقيض وقتما يتحول إلى خلاف فينتج عنه مشاكل قد تصل للانتقام والاقتتال، وما الشورى في الإسلام إلا تشريعاً لهذا الاختلاف مصداقاً لقوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) والذي بمقتضاه كان نبينا صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ويستمع لآرائهم ووجهات نظرهم دونما تعصب أو فرض قوة وإرادة عليهم سعياً وراء الاستفادة من آرائهم ومقترحاتهم بما يُحق الحق ويبطل الباطل ويعود على أمته بعميم الفائدة. وهو المنهج القويم الذي سار عليه صحابته في مُختلف نواحي حياتهم الخاصة والعامة، ولعل ما وقع من خلاف بين الصحابيين الجليلين ابن مسعود والخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما بما يتعلق بإتمام الصلاة في سفر الحج من عدمها، والذي أنتهى بموافقة ابن مسعود على رأي عثمان ليقول له: ما هذا إلا خلاف بشر خير مثال لذلك، فما أحرى مجتمعنا المسلم بالأخذ بهذا المنهج القويم بحيث لا يجعل أفراده من اختلافهم المذهبي مبعثاً للابتداع والتناحر، ولا اختلافهم في طرقهم ووسائلهم التربوية الحديثة سبيلا للتنازل عن ثوابتهم الدينية، ولا اختلافهم مع بعضهم البعض ولأتفه الأسباب أحياناً مطية للإسفاف والحط من الكرامة وجرح المشاعر امتثالاً لقوله تعالى (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) وقوله أيضاً (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) ولعل القاعدة الأصولية التي وضعها المفكر الإسلامي السيد رشيد رضا (لنتعاون فيما اتفقنا عليه ونتسامح فيما اختلفنا عليه) خير وسيلة لتفادي الاختلافات المذمومة بالإضافة لأمور أخرى متممة ومنها: أولا: إخلاص النية، وإحسان الظن، والتحلي بالحكمة والصبر وبعد النظر، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. ثانيا: الاحتكام للعقل والمنطق السليم، فضلاً عن التسامح، والتجرد من الأهواء النفسية، والتعصب الممقوت، فما تراه صواباً يحتمل الخطأ، وما يراه غيرك خطأ يحتمل الصواب. ثالثا: الحوار بالتي هي أحسن امتثالاً لقوله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) واختيار ألين العبارات استجابة لقوله تعالى (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). رابعا: لزوم الصمت أو الانسحاب المؤقت إذا لم تجدي الأساليب السابقة نفعاً، لريثما تهدأ النفوس وتتوافر البدائل المناسب لإنهاء هذا الخلاف. خامسا: ضرورة تقيد المعنيون بالاختلاف بما تم الاتفاق عليه بحيث لا يدفع أحدهم غضبه عن قول الحق، فالحق أحق أن يُتبع، ولا يدخله رضاه في الباطل، ولا يمنعه اختلافه من تجاهل حسنات خصمه تحقيقاً لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ). سادسا: النظر للنقد الهادف والبناء على أنه وسيلة للتخلص من السلبيات ودافعاً لمزيد من السمو الفكري الخلاق وليس للحط من كرامة ومكانة المنتقد في أي حالة يكون، وينطبق ذلك على التقارير والرسائل العلمية والمؤلفات وقتما تخضع للتدقيق والمراجعة ولهذا النوع من النقد للرقي بها إلى مستويات عالية من الجودة والإتقان، والذي يُفترض أن يجد القبول طالما هو كذلك، وليس النظر إليه على أنه انتقاصة بذاتيتهم.. وبالله التوفيق. عبد الفتاح أحمد الريس باحث تربوي، وعضو الملتقى الإعلامي بمنطقة تبوك
مشاركة :