العشق فيض من معين ابن الفارض

  • 5/22/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: علاء الدين محمود خمسة عشر عاماً من العزلة، قضاها عاشق متبتل إلى الله سبحانه وتعالى، ترك كل ملذات الدنيا ومتعها، وذهب في طريق السالكين المريدين الذين يرجون ما عند الله من فضل ونور وحقائق ومعارف وأسرار، فاتجه نحو تلك العزلة من مكة، حيث قضى فريضة الحج، فتخير وادياً بعيداً عن العيون، يسمى وادي المستضعفين في جبل المقطم بمصر، لقد لبس ثوب الصوفي ووطد عزمه على خوض التجربة والسير في الطريق إلى الله تعالى، حيث المدد والانوار الربانية والحقائق النورانية، وكانت بالفعل عزلة مجيدة؛ إذ متنت من أداته في التقرب إلى الله وهو الشعر، فكانت تلك العزلة هي المنبع الذي فاضت منه معظم أشعاره، فقد وجد نفسه في فضاء تأملي حرك بداخله فيوضاً من الأشعار. كانت تلك الرحلة إلى العزلة، هي التي خاض تجربتها وتبع أسرارها وحاز معانيها، أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، المعروف بابن الفارض والملقب بسلطان العاشقين، وصاحب الأشعار التي خصصها في محبة الله تعالى. كانت رحلته تلك خير معين له، فزاده فيها هو رجاء رب العالمين، فما خاب ابن الفارض، فقد غمرته الأنوار، تلك التي سطعت في مفردات أشعاره، وتجلت في معانيه، وبعد أن أنهى عزلته عاد إلى مصر مجدداً محملاً بالبديع ودرر البيان، وعاش هناك إلى وفاته حيث دفن بجوار جبل المقطم في مسجده. وربما لولا تلك العزلة لما اختار ابن الفارض الابتعاد عن مرتع طفولته، واختلاطه بالناس، في أرض الكنانة، فكان يكن لمصر وأهلها محبة خاصة، حيث ولد فيها، وقد اختلف في تاريخ ولادته فقيل إنَّه ولد في 576ه في القاهرة، واتفق المؤرِّخون على تاريخ وفاته وهو عام 632 ه، وتلقى في مصر علومه؛ إذ نشأ في ظل أسرة كريمة تصون العلم بالعمل، فسارع منذ أن شب إلى طلب علوم الحقيقة ثم علوم الطريقة، ولما بلغ مبلغاً من العلم اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن ابن عساكر. ثم سلك طريق الصوفية ومال إلى الزهد، فكانت رحلته تلك، حيث تفرغ للعبادة ونظم الأشعار في حب المولى عز وجل، ولرقة شعره وعذوبته حمل لقب سلطان العاشقين؛ فعلى الرغم من أن الصوفية قد عرفت الكثير من الشعراء، إلا أن ابن الفارض كان أشهرهم بلا منازع، وله العديد من القصائد التي تغنَّى فيها بالحب الإلهي، من أشهرها القصيدة التائية إذ تضم العديد من الآراء حول الحب الإلهي، ومراحله، وفي قصيدته «التائية الكبرى»، أراد ابن الفارض أن يعرف بالتصوف، فحشد فيها معاني الحب على طريقة المتصوفين، وقد راعى فيها أن تأتي سلسة في الأسلوب، ودقيقة من حيث العبارة وقوتها، فجاءت وهي في ثوب قشيب عامر بالوصف البديع وحلاوة المفردات وجمال الأسلوب وفيض المعاني، الأمر الذي جعل الكثيرين يصنفونها كأفضل قصيدة قيلت في التصوف على الاطلاق، وهي السبب الأساسي في تلقيبه بسلطان العاشقين، فقد انسجمت القصيدة مع معاني الطريق الصوفي في استعاراته ورموزه، واحتوائها على معاني العشق، وقد أطلق ابن الفارض على تلك القصيدة اسم «نظم السلوك»، والاسم يحمل إشارة لما يجب أن يتزود به المتصوف في طريق السالكين، فكانت الأبيات الشعرية بمثابة خارطة طريق تضيء الدرب لمن أراد أن يدخل في عالم التصوف، فهي تعتبر قدوة للسالك الذي يريد أن ينهل من بحر ابن الفارض وطريقته في التصوف، فالقصيدة عامرة بمواقفه الخاصة، وطريقته في الحب الذي عمر قلبه، ويقول في بعض منها: وقلتُ، وحالي بالصَّبابةِ شاهدٌ ووجدي بها ماحيَّ، والفقدُ مثبتي هَبي، قبلَ يفنى الحبّ منِّي بقيَّةً أراكِ بها، لي نظرةَ المتلفِّتِ ومنِّي على سمعي بلنْ، إنْ منعتِ أنْ أراكِ، فمِنْ قبلي، لغيريَ لذَّتِ هَوًى، عبرةٌ نمَّتْ بهِ، وجَوًى نمتْ به حُرَقٌ، أدْوَاؤها بي أوْدَتِ العابد المتسامح عرف ابن الفارض كرجل صالح، ولم يكن متعصباً لمذهبه أو آرائه، فقد اشتهر عنه التسامح، فقد كان نقياً لا يعرف التعصب ولا إقصاء الآخر، وهو لم يصل إلى هذه المكانة من المقدرة على ضبط النفس والسيطرة عليها، إلا من خلال ما وطن عليه نفسه من سلوك يتفق مع وجهته في التصوف والطريق، فقد هذب نفسه وروحه وأعدها تماما لتلقي المدد الروحي والمعارف والأنوار، كما أنه اعتزل ملذات الحياة فكان كثير الصيام، بل كان يقضي أياماً من حياته بلا ماء ولا طعام، ولا نوم، حتى وصل عدد تلك الأيام التي قضاها على تلك الحالة أربعين يوماً سميت بالأربعينيات، وقد كان شديد الثقة في نفسه، ووصل حالة من الوله الصوفي اعتبر فيها نفسه إمام الصوفية والعاشقين، وكان يحض الناس على أن لا يأخذوا من غيره أسرار الحب والعشق الإلهي، فقد كان يرى أنه أعلم أهل التصوف بذلك الشأن، فقد كانت المحبة طريقه التي اتخذها نحو بلوغ الغايات من الترقي والقرب ونيل المعارف، وكان الشعر هو أداته في مناجاة لم تنقطع لربه، ينظمه ليلاً ونهاراً، يقول في واحدة من أجمل قصائده: قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيهِ أسى ً، ومِثلي مَن يَفي ما لي سِوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ فَلَئنْ رَضيتَ بها، فقد أسْعَفْتَني يا خيبة َ المسعى إذا لمْ تسعفِ.

مشاركة :