اليابان من وجهة نظر عربية: حول مصداقيتنا الأخلاقية

  • 7/13/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

بينما أنا في حيرة من تناقضات مجتمعاتنا الشرق أوسطية، وخاصة بعد ان قضيت أكثر من عقد من الزمن كأول سفير لمملكة البحرين في اليابان، أجد أن هناك استياء شعبيا عاما في المنطقة، لما وصلت له أخلاقياتنا من تناقضات، فبينما يتشدق الكثيرون بإيمانهم الديني، ويكثرون من صلواتهم وصيامهم، يتصور البعض أن مصداقيتنا وسلوكية اخلاقيتنا في ترد تنازلي يوما بعد يوم، وخاصة بعد أن حولت التكنولوجيا المتطورة العالم إلى قرية عولمة صغيرة، فاختلطت فيها العادات والتقاليد والقيم والاخلاقيات، ويبقى السؤال عزيزي القارئ: هل فعلا قلت مصداقية وقيم اخلاقيات الشعوب المختلفة في العالم؟ وهل هذه التغيرات مرتبطة بمدى إيمان الشخص الديني أو ثقافته أو موقعه الجغرافي أو ثرائه في عالمنا الجديد؟ ليسمح لي عزيزي القارئ أن أناقش مقالا بعنوان (مدى مصداقيتنا)، كتبه بروفيسور الاخلاقيات البيولوجية بجامعة برنستون الأمريكية، وهو البروفيسور بيتر سنجر، بالصحيفة الفكرية الإلكترونية بروجيكت سينديكت، في شهر يوليو الجاري، يقول فيه: من الشائع أن نسمع شكوى أننا نعيش في عصر المصالح الشخصية، بينما انحدرت مستوى الاخلاقيات، والقلة منا من يهتم بمصالح الاخرين، كما أن معظم البشر يمكن ان يسرقوا إذا ضمنوا الهروب من العقاب. ولكن هناك دراسة بحثية جديدة قد تقلب هذه التصورات رأسا على عقب. فقد بينت دراسة جديدة أجريت في أربعين دولة أن العالم ليس سيئا بالدرجة التي نتصورها. فلنتصور أنك فقدت محفظتك وبها بطاقتك الشخصية وعنوانك الإلكتروني، فما احتمالات أن يتصل بك شخص، ويخبرك أنه وجد محفظتك المفقودة؟ وإذا كان بمحفظتك بعض النقود فهل تزداد احتمالات رجوعها إليك؟ وحينما نسأل هذا السؤال، نتساءل بشكل غير مباشر أيضا عن مدى مصداقية البشر، ومدى اهتمامهم بالآخرين؟ وليسمح القارئ العزيز قبل أن نكمل إجابة البروفيسور بيتر سنجر عن السؤالين المطروحين، أن أرجع الى التجربة اليابانية للإجابة عنهما. فاحتمال ان تتصل بك الشرطة في اليابان وتخبرك ان محفظتك موجودة بمركز الشرطة الاجتماعية، بعد ان وجدها شخص، وحضر الى مركز الشرطة وقدمها الى المسؤول المختص، هو احتمال كبير جدا. وهذه هي الاخلاقيات التي يتبعها الشعب الياباني بحذافيرها، وان كانت بالمحفظة نقود قليلة أو كثيرة، بل هناك قانون ياباني يعطي حق ما في المحفظة من نقود إلى الشخص الذي وجدها، إذا لم تجد الشرطة صاحب المحفظة خلال فترة يحددها القانون، ولكن حينما تتصل الشرطة بالشخص الذي وجد المحفظة، ويخبرونه ان هناك مبلغا من النقود لم يكتشف صاحبها، وأن هذه النقود أصبحت من حقه، فعادة جميع هذه الفئة ترفض قبول هذه النقود، لأنهم يعتبرونها ليست من حقهم، لأنهم لم يقدموا جهدا للحصول عليها، لترجع في النهاية الى ميزانية الدولة لتصرف على الرعاية الصحية أو التعليمية وغيرها. ولنكمل عزيزي القارئ جواب البروفيسور بيتر سنجر عن السؤالين اللذين طرحهما في بداية المقال ليقول: يعتقد بعض علماء النفس أن مصداقية البشر مرتبطة بمدى قرابة الشخص من الآخرين، فهل هذه هي الحقيقة أم هو تشاؤم غير واقعي؟ لقد قامت مجموعة من الباحثين في الولايات المتحدة وسويسرا بنشر نتائج بحث اجري على سبعة عشر ألف محفظة مفقودة، وفي أربعين بلدا مختلفة، بعد أن قام فريق من المساعدين في البحث بتقديم محفظة لموظفي الاستقبال في عدة بنوك ومسارح ومتاحف وفنادق ومكاتب حكومية في 355 مدينة، واخبروهم بأنهم وجدوها، وعليهم أداء الواجب اللازم، وفي الوقت الذي مثلوا بأنهم في طريقهم بسرعة الى عملهم، وبدون ان يطلبوا من موظفي الاستقبال أي إيصال يؤكد أنهم استلموا المحافظ، أو تركوا اي اسم أو عنوان يمكن التواصل معهم. وقد كانت جميع هذه المحافظ مصنوعة من مواد بلاستيكية شفافة، وبها ثلاث بطاقات تجارية ممكن رؤيتها بسرعة وسهولة، ومع العنوان إلكتروني، كما بها قائمة لشراء الطعام وبلغة نفس البلد، ونقد مالي يتراوح بين ثلاثة عشر وخمسة وتسعين دولارا. وكما هو متوقع، فقد اعتمد نسبة رجوع المحافظ الى أصحابها على مدى ثراء الدول، فقد كانت على رأس القائمة سويسرا والنرويج وهولندا والدانمارك والسويد، حيث أكثر من 65% من المحافظ رجعت الى أصحابها، بينما كانت بولندا وجمهورية الشيك قريبة من تلك النسبة، بل متقدمة على دول أكثر ثراء، مثل أستراليا وكندا وأمريكا. وقد يعتقد البعض أن المتدينين اكثر مصداقية، بينما لم تؤكد هذه الدراسة ذلك، فمثلا دول كالسويد والدانمارك والنرويج وجمهورية الشيك أكد 75% منهم أن الدين ليس مهما في حياتهم، ومع ذلك كانت نسب رجوع المحفظة عالية، وبالعكس الدول التي اكدت 80% منهم ان الدين عامل مهم في حياتهم، فنسب رجوع المحفظة كانت اقل من 25%، والغريب ان المحافظ التي كانت بها نقود كانت نسب رجوعها أعلى من المحافظ الخالية من النقود، في 38 دولة من الأربعين، حيث كانت متساوية في المكسيك وبيرو، بينما كانت نسب رجوع المحفظة في ثلاث دول اعلى حينما كانت المحفظة تحتوي على 95 دولارا بدل 13 دولارا. وقد حاول الباحثون تفسير ذلك بالخوف من العقاب، أو توقع الحصول على بعض النقود من صاحب المحفظة، أو اخذ النقود مع ارجاع المحفظة، بينما 98% من المحافظ التي رجعت كان بها النقود، كما بينت الدراسة ان العقاب أو الثواب لم يكن عاملا مهما لإرجاع المحفظة. لذلك تساءل الباحثون: ما سبب ان المحافظ التي بها النقود كانت نسب ارجاعها اعلى؟ وقد وجد الباحثون الجواب من خلال المفتاح الموجود في المحفظة، فقد وجد أن المحفظة التي بها المفتاح مع النقود، نسبة رجوع المحفظة اعلى من نسب المحافظ التي بها النقود فقط. فهل سبب ذلك اهتمام الفرد بمصالح الاخرين؟ أم شعور الفرد بأنه شخص يمكن الوثوق به؟ ويستنتج البروفيسور من هذه الدراسة انه علينا ان تزداد ثقتنا بالبشر، فمن الشائع ان نسمع أننا نعيش في زمن تتغلب فيه المصالح الشخصية، وانعدمت فيه القيم الأخلاقية، والقلة من تهتم بالآخرين، وان معظم البشر سيسرقون لو تأكدوا أنهم لن يتعرضوا للعقاب، فهذه الدراسة تؤكد أن العالم ليس سيئا كما نتصوره. ولنا لقاء.

مشاركة :