استكمل (مختبر الفلسفة والفكر النقدي) عقد جلساته الحوارية الفلسفية في 26 يونيو الماضي 2019 في مقر دار فراديس للنشر والتوزيع، متخذًا كتاب (العقل في التاريخ) لهيغل محورًا للحوار هذه المرة. شهدت الجلسة حضورًا شبابيًا من المهتمين بالمواضيع الفلسفية عامة، وحضور بعض المثقفين للمشاركة في النقاش. دارت المناقشات حول بعض جوانب الكتاب، وجودة ترجمته، والتفسيرات المختلفة للفكر الفلسفي الهيغلي، ومكانة الفيلسوف هيغل في التاريخ الفكري ككل. لم يختلف أحد بأن الكتاب المذكور يعد كتابًا سهلاً أمام مؤلفات هيغل الضخمة الأخرى مثل (علم المنطق) و(فينومينولوجيا الروح) التي تحمل لغة فلسفية غزيرة ومعقدة. زد إلى ذلك حقيقة أن هذه المؤلفات تتطلب، بدورها، دقة عالية في الترجمة إلى اللغة العربية مما تجعلها مقروءة ومفهومة في مثل هذا الوقت. ارجع بعض المشاركين ذلك إلى كون هيغل يميل، بطبيعته ككاتب في المقام الأول، إلى التعقيد الفلسفي المفتعل؛ وإلا لِمَ سنجد بأن لغته تتراوح من كونها مفهومة، في محاضراته مثلاً، إلى كونها غير مفهومة في مؤلفاته الأخرى؟ في مثل هذا الوقت، راح صف آخر من المشاركين إلى إرجاع التعقيد اللغوي والفكري إلى حقيقة أن هيغل نص فلسفته بشكل دراماتيكي؛ مستحضرين تشبيه نيتشه لموسيقى فاغنر الدراماتيكية بفلسفة هيغل التي تتسم بالمبالغة الفلسفية. إن ذلك، حسب هؤلاء المشاركين، يرجع إلى أسلوب الفيلسوف نفسه؛ بما إن رأى نفسه مشكلاً مفتحًا فلسفيًا جديدًا في عصر نهاية التاريخ الذي يحدث ويتصير بشكل دراماتيكي بدوره. إن الفلسفة الهيغلية، حسب هذا الرأي، تشكل نفسها كمرآة لدراماتيكية عصر نهاية التاريخ بحد ذاته. أما سبب كون هذا المؤلف سهلاً، فإن ذلك يرجع إلى خديعة الفكر الهيغلي نفسه الذي يستخدم لغة سهلة ولكن، بخبث، يدمغ فيها الفلسفة المعقدة. كما إن هذا المؤلف هو عبارة عن محاضرات القاها هيغل، وعنوانها الأصلي هو: (محاضرات حول فلسفة التاريخ) أو أحيانًا عند بعض الترجمات (محاضرات حول فلسفة تاريخ العالم). وفي طور النقاش، أول طرف معين من المشاركين طبيعة الفلسفة الهيغلية بكونها فلسفة ارتقائية تطورية، وبالتالي تنطوي هذه النزعة على نظرتها، أو تأويلها، للتاريخ بوصفه تاريخًا تطوريًا ارتقائيًا يحمل الروح إلى أشكالها الأكثر كمالاً متجسدًا في النهاية الكلية للتاريخ الذي فيه يدرك العقل نفسه روحًا، ويصير الإنسان، الإنسان بكليته، حرًا. إن هذه الحقيقة تشكل الجوهر الأساسي لمثالية هيغل التي كانت تروج، عبر هذه الارتقائية، نظرة أورو - مركزية، فيها يتطور التاريخ نحو الكمال النهائي الذي تجسده أوروبا الغربية بالتحديد. كما إن أضاف طرف آخر بأن هناك بعض من الباحثين المقتنعين بوجود العنصرية في الفكر الهيغلي؛ الذي فضل أقوامًا على أخرى، وحكر الارتقاء، أو جسده، في قوم دون آخرين. كانت هذه النقطة موضع الخلاف الأساسي في الجلسة الحوارية. فهناك من رأى بأنه لا يمكن أن نصف الفكر الهيغلي بأنه فكر ارتقائي تطوري بكل بساطة؛ فيصير وكأنه مجرد صنف آخر من الفلسفة الكونتية. وعلى رغم أنه من الممكن أن نقول بإن هيغل كان ارتقائيًا إلا أن تصنيفه هكذا يجب ألا يكون من دون تفسير معمق لطبيعة هذه الارتقائية التي تختلف كليًا عن باقي الأفكار التي تحملها. وذلك لن يحصل ما لم، حسب هذا الرأي، ربطنا (علم المنطق) بالفكر التاريخي الهيغلي. إن (علم المنطق) هو المفهوم الفلسفي الديالكتيكي في تجريديته، ويعني ذلك أن الديالكتيك هو بنية لا منهج، وإطار هذه البنية هو الارتداد المطلق. في الكتاب الذي يجري عليه النقاش، يبين هيغل مفهومية التاريخ وانكشاف هذا المفهوم ديالكتيكيًا، وذلك لا يحصل غائيًا بقدر ما يحصل ارتجاعيًا، أي هيغل يؤمن بالصدفة ولكنه يسجلها ضرورية ارتجاعيًا، وهكذا النتيجة هي الارتقائية ولكن بثمن تسجيل كل صدفة كضرورة بعد الحدث نفسه: مثل ما كان على نابليون أن يفشل مرتين كي يكون فاشلاً فعلاً، الأولى في إلبا والثانية في سانت هيلينا. انتقل النقاش، بعد ذلك، إلى مكانة هيغل في تاريخ الفلسفة. حقيقة أن هيغل لا يزال شبحًا يطارد الفكر الفلسفي يعني أنه ترك أثرًا عميقًا فيه مهما حاول الفلاسفة الآخرون التخلي عنه في القرن العشرين. كما إنه يمكننا تشبيه هيغل ببيتهوفن، بكون الأخير حاضرًا في كل المؤلفين الموسيقيين من بعده ومن ضمنهم أولئك الذين حاولوا التخلي عن الموسيقى النغمية واصفين موسيقى بيتهوفن بكونها شمولية. إن نقد هيغل هو شيء، بينما تفكيكه هو شيء آخر. نقده يعني أن تكون أشرس أعدائه، وأن تتصيد كل خطأ قام به، وتغض النظر عن تاريخية نصه. فيما تفكيكه يعني أن تكون صديقًا له وتحترم فرديته وخصوصيته، وبالتالي على هذا الشرط وحده تتجاوزه وتتخلى عن مثاليته. الجدير بالذكر أن (مختبر الفلسفة والفكر النقدي) هو مبادرة شبابية لاستقراء الفلسفة والفكر النقدي في البحرين، ويرى (المختبر) ان الفلسفة هي الطريقة الوحيدة للتدخل في القضايا المحلية، وكأنها - الفلسفة - الشكل الغريب المكبوت الذي لا يعرف العامة كيف يجابهه أو يقمعه حتى، وبالتالي يسمح بالتحدث عن كل شيء وفي مثل الوقت عن لا شيء.
مشاركة :