ليست المرة الأولى التي تنقلب فيها السلطات التركية على نتائج العملية الديموقراطية، وعلى صوت ملايين الناخبين عبر عزل مئات بل آلاف رؤساء البلديات وأعضاء البرلمان والمجالس البلدية والناشطين السياسيين والمدنيين الأكراد المنضوين خصوصاً تحت لواء "حزب الشعوب الديموقراطي" وحبسهم. وعلى رغم حرب الإبادة السياسية الضارية هذه ضدهم، فإن الأكراد، وبوصفهم طليعة القوى الديموقراطية في البلاد، ردوا مرة بعد مرة من خلال ممارسة حقهم الديموقراطي وعدم التفريط به وإعادة انتخاب ممثليهم ومن الحزب المستهدف ذاته على طول الخط من قبل السلطة التركية بجهازيها القمعيين الظاهر والعميق. في المقابل، فإن التحالف القومي - الديني الفاشي الحاكم، وعلى رغم خسارته الفادحة في الانتخابات البلدية الأخيرة خاصة في مدينة اسطنبول، التي تعتبر المحك والمجس لتوجهات الناخب في تركيا، يأبى هذا التحالف إلا مواصلة إنقلابه على الديموقراطية من خلال الاقدام على احتلال مقار بلديات ثلاث من أكبر المدن الكردية (آمد - ديار بكر ووان وماردين) وعزل رؤساء بلدياتها واعتقالهم، وكالعادة بالتهمة المعلبة والمبتذلة ذاتها وهي: "الارتباط بمنظمات إرهابية وانفصالية والعمل على تقسيم البلاد"، ما يعيد إلى الأذهان التهمة البعثية الأخيرة: "إضعاف الشعور القومي"، ويطرح بقوة حقيقة أن الديموقراطية والأردوغانية باتتا على طرفي نقيض وأن وجود إحداهما ينفي بداهة الثانية. تعيش تركيا مواجهة مفتوحة بين نظام تسلطي فردي يكاد يتحول شمولياً مطلقاً، وبين مختلف شعوب البلاد ومكاوناتها، التي تواجه التغول السلطوي عبر صناديق الاقتراع كما شاهدنا قبل أشهر قليلة. بيد أن الرئيس رجب طيب أردوغان، كما الزعماء الفرديين كافة، المهووسين بذاتهم وبإستثنائيتهم الوهمية، اختار الايغال في مسببات هزيمته الانتخابية الأخيرة من تفرد واستبداد وتسعير للحرب على الشعب الكردي، وكبت الحريات وتضييق مساحاتها والعمل على قولبة المجتمع التركي وتطويعه وإرضاخه لحكمه العصابي المطلق . وما عزل رؤساء البلديات الثلاث واعتقالهم الكيدي والتعسفي، إلا خير مثال على ما تقدّم، ذلك أن اختيارهم لم يأت اعتباطاً، إذ نتحدث هنا عن بلديات مدن كبرى ومؤثرة وتتمتع برمزيات لا تخطئها عين. فديار بكر مثلاً، هي بمثابة عاصمة كردستان تركيا، على ذلك. من هنا، فإن اقتحام مبنى رئاسة بلدية العاصمة التاريخية للأكراد وسوق مئات الناشطين والسياسيين إلى السجون، هو انقلاب موصوف جديد على الديموقراطية يضاف إلى سجل الانتهاكات الأردوغانية المتراكمة والمتمادية لأبسط مبادئها. فبكل صلافة استبدادية، يتم طمس إرادة ملايين الناخبين وإهانة ممثليهم المنتخبين واعتقالهم، ليتم فرض وتعيين بدلاء منهم من قبل السلطة، في تصرف موغل في اللامعقول والضرب بقواعد اللعبة الديموقراطية عرض الحائط ، والتي تحولت والحال هذه إلى لزوم ما لا يلزم طالما أنه متى ما راق للرئيس التركي، يقوم بإلغاء مترتبات العملية الديموقراطية وشطب مفاعيلها، وإصدار فرمانات العزل والسجن في حق من وصلوا إلى مواقعهم بصوت الناس وتعبيراً عن إرادتهم ورغبتهم في الخروج من عنق الزجاجة الأردوغانية الخانقة ليس للأكراد فقط بل لعموم الأتراك. وحسبنا الإشارة هنا إلى تعالي الأصوات المنددة بهذه الخطوة الانقلابية، وفي مقدمها موقف رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو المنتخب حديثاً عن حزب المعارضة الرئيس "الشعب الجمهوري"، فضلاً عن المواقف المنددة الصادرة من قيادات تاريخية مؤسسة لـ "حزب العدالة والتنمية" كالرئيس التركي السابق عبد الله غول، ووزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، الذي كان بمثابة منظر سياسات الحزب، وصاحب نظرية "صفر مشاكل" التي نسفها أردوغان عن بكرة أبيها كنسفه الديموقراطية التركية، محولاً النفخ في المشاكل داخلياً وخارجياً وافتعالها واستثمارها منهج عمل وطريقة حكم وحياة لتبرير استبداده المتعاظم.
مشاركة :