د.غسان العزي في العام 1987، وكانت الحرب الباردة تقترب من نهايتها، وقع الرئيسان الأمريكي ريجان، والسوفييتي جورباتشوف، على معاهدة «الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى» التي تحظر الصواريخ الباليستية، والكروز، والأرض-أرض، التقليدية منها، والنووية، وقد رافق هذا المنع إلزام الدولتين بتدمير ترساناتهما الموجودة، الأمر الذي حصل بالفعل، إذ تم تدمير 2692 صاروخاً قبل العام 1991. هذه المعاهدة شكلت حلاً لأزمة الصواريخ الأوروبية التي وقعت في نهاية سبعينات القرن المنصرم، عندما قام الطرفان بنشر صواريخ نووية في الأراضي الأوروبية. وقد أنتجت هذه المعاهدة مفاعيل إيجابية للأوروبيين الذين عاشوا بمنأى عن تهديد الصواريخ متوسطة المدى طيلة عقود ثلاثة.وفي الثاني من فبراير/ شباط المنصرم اتخذ الرئيس ترامب القرار بالانسحاب من المعاهدة المذكورة، وهو قرار بات نافذاً في نهاية الشهر الماضي. ورد عليه الرئيس بوتين بتعليق مشاركته، هو الآخر، بالمعاهدة التي تكون بذلك في حكم المتوفاة.وتبادل الطرفان، الروسي والأمريكي، الاتهامات بخرق المعاهدة، لكن الحقيقة أن خلف القرار الأمريكي يكمن صاروخ كروز الروسي «نوفيتور» الذي يسميه حلف الأطلسي SSC-8 وهو صاروخ أرض-أرض تطلقه آلية متحركة ويصل إلى مدى 2500 كلم، وقد عملت موسكو على تطويره منذ العام 2000 وأجرت عدة اختبارات عملية عليه عبر إطلاقه في العامين 2014 و2015، بحسب المزاعم الأمريكية التي أيّدها حلف الأطلسي، والتحقيقات الفرنسية. وقد ردت روسيا بأن هذا الصاروخ لا يتعدى مداه 480 كلم.الفرنسيون الحذرون من الوقوع في فخ المعلومات الأمريكية المغلوطة، كما حدث بشأن الأسلحة النووية العراقية المزعومة في العام 2003، قاموا بتحقيقاتهم الخاصة «الحرة، والمستقلة، والمستندة إلى معلومات موثوقة»، بحسب كورتن برشتلاين، مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، الذي أكد أن الروس عملوا على تطوير قدرات عسكرية ممنوعة، وحاولوا التعتيم عليها. وقد طلبت لجنة الدفاع الوطني والقوات المسلحة في الجمعية الوطنية الفرنسية الاستماع إلى نيكولا روش، مدير الشؤون الاستراتيجية والأمنية في وزارة الخارجية، في جلسة علنية في 20 مارس/ آذار الماضي، بعد إشرافه على تحقيق خاص بموضوع الصواريخ الروسية المذكورة. وفي هذه الجلسة أكد روش أن الاستخبارات الفرنسية تجزم أن الفيدرالية الروسية تقوم منذ فترة بتطوير الصاروخ المذكور في خرق واضح لمعاهدة حظر الصواريخ النووية متوسطة المدى التي كانت من أهم المعاهدات الموقعة خلال الحرب الباردة، لكونها أتاحت تخفيض التوترات في أوروبا، وتدعيم ثقافة نزع التسلح والثقة بين الدول، كما قال.هذه المعاهدة ثنائية، أي أنها من حيث المبدأ لا تلزم سوى واشنطن وموسكو، القوتين الأعظم في العالم خلال الحرب الباردة. لكن الظروف تغيرت كثيراً اليوم، لا سيما مع الصعود الصيني اللافت. فمنذ العام 2007 ينتقد الرئيس بوتين المعاهدة لأنها لا تلزم الصين المنخرطة في تطوير ترسانة صواريخ أرض-أرض متوسطة المدى من النوع الذي تحظره المعاهدة. بدورها، تؤكد واشنطن أن 95% من الألفي صاروخ التي تمتلكها الصين هي متوسطة المدى من تلك التي تحظرها المعاهدة المذكورة.وتتهم موسكو واشنطن بخرق المعاهدة عبر نشرها منظومة الدروع الواقية من الصواريخ على الأراضي الرومانية. هذه الدروع، بحسب مزاعم موسكو التي لا توافق عليها باريس، كما ورد في مرافعة روش، تصبح بعد تعديلات تقنية بسيطة قادرة على إطلاق صواريخ كروز.وبمعزل عمّن تسبب بموت المعاهدة المذكورة، هل سيفتح ذلك السبيل أمام سباق تسلح نووي جديد؟ «للأسف الشديد نعم»، يجيب الجنرال الفرنسي دينيس ميرسييه الذي بلغ مؤخراً سن التقاعد بعد خدمة طويلة في قيادة حلف الأطلسي. ويضيف:«لهذا السبب فإن القرار الأمريكي بالانسحاب من المعاهدة ليس بالقرار الصائب على الإطلاق». فبعد نحو الثلاثين عاماً على اختفاء الاتحاد السوفييتي يطوي نزع التسلح صفحته ليبدأ عهد جديد من السباق على التسلح، لاسيما النووي منه. وقد تكون نهاية معاهدة نزع الصواريخ متوسطة المدى مجرد خطوة رمزية، بحسب بعض المراقبين، إلا أنها تحمل نتائج سياسية خطيرة. فهذه الصواريخ تنتشر في الأراضي الروسية، ولا تهدد سوى الدول الأوروبية، وبعضها أكثر من الآخر. لذلك، هناك مخاطر حقيقية على التضامن والتكافل في حلف الناتو كما جاء في المادة الخامسة من معاهدة الحلف، بحسب كورتن برشتلاين.وفي ما يتخطى المعاهدة المذكورة فإن العالم يتطلع إلى العام 2021 موعد نهاية معاهدة «نيوستارت» التي تضع حداً للأسلحة النووية الاستراتيجية أي بعيدة المدى التي تملكها كل من روسيا والولايات المتحدة. وقد اتفق البلدان على أن تجديد المعاهدة لن يجري بشكل آلي، الأمر الذي يقلق الأوروبيين الذين يخشون من أن يجدوا أنفسهم، بعد العام 2021، في وضع شبيه بالذي ساد في ستينات القرن المنصرم. لكن ما قد يبعث شيئاً من الأمل هو مشروع القانون الذي تقدم به أعضاء من مجلس الشيوخ الأمريكي، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يدعو إلى المحافظة على معاهدة «نيوستارت» إلى ما بعد العام 2021، بغية تقييد حركة الرئيس في اتجاه إطلاق سباق تسلح يحمل مخاطر جمة على العالم بأسره، والولايات المتحدة نفسها.
مشاركة :