تعد نتائج الانتخابات الإسرائيلية مؤشراً مهماً على التحولات الفكرية والسياسية والمجتمعية التي تحدث في الدولة العبرية، ونتائجها الأخيرة تطرح كثيراً من الأسئلة، ليس حول من سيشكل الحكومة فقط، وهل ستكون حكومة وحدة وطنية عامة، أم حكومة أحزاب ناقصة الأغلبية المطلوبة المتعارف عليها، أي 61 نائباً، وإنما أيضاً تثير إشكاليات كبرى من قبيل حدود التأثير والنفوذ الذي وصل إليه تيار اليمين، المدعوم بالخضوع للتيارات الدينية المتطرفة، والذي كان وراء صدور قانون الدولة اليهودية قبل نحو العام، وأيضاً الدور الذي يمكن أن يلعبه النواب العرب، أعضاء القائمة المشتركة الذين حققوا إنجازاً مهماً، تمثل في حصولهم على الترتيب الثالث، متفوقين بذلك على أحزاب يمينية وصهيونية عتيدة، من قبيل «إسرائيل بيتنا» برئاسة أفيغدور ليبرمان، وباقي الأحزاب الدينية، والحريديم المتطرفة سياسياً والمتشددة دينياً. وبين الأمرين تُطرح أيضاً علامات استفهام كبرى بشأن ما دُرج على تسميته «صفقة القرن»، أو الحل التاريخي الذي يسعى إليه الرئيس ترمب لأمن إسرائيل ووجودها، وليس لحل القضية الفلسطينية.بالقطع، إن الأكثر إثارة الآن، وربما الشغل الشاغل للقوى الإسرائيلية، هو ما يتعلق بمصير رئيس الوزراء نتنياهو، زعيم الليكود، والملقب بملك إسرائيل، والمتهم بقضايا فساد، ومنتظر أن يُحسم الأمر بناء على نتائج التحقيق، المرتقب بعد نحو أسبوعين مع النائب العام، والحسم هنا مرهون بتوجيه لائحة اتهامات، الأمر الذي يؤكد بصورة أولية تورطه في الفساد، ومن ثم خضوعه للمحاكمة. ومع هذه النهاية المتوقعة إلى حد كبير، يصبح مصير نتنياهو في مهب الريح. وهو ما يفسر تمسكه بكل الأوراق التي من شأنها أن تبقيه في السلطة، والتي بدورها تؤجل أو ربما تمنع محاكمته بعض الوقت. من بين هذه الأوراق طرح فكرة حكومة وحدة وطنية مع بيني غانتس، زعيم تحالف «أزرق أبيض» الفائز بالترتيب الأول بفارق مقعدين عن كتلة الليكود، وهو الطرح الذي رفضه غانتس، باعتبار أنه لا يتحالف مع شخص متهم بالفساد. وأيضاً لأن وعود غانتس الانتخابية وتحالفاته مع الثلاثة الكبار، يائير لبيد، وموشيه يعالون، وغابي أشكنازي، قائمة على أساس استعادة السمات العلمانية والليبرالية للمؤسسات الإسرائيلية، وهي التي هدمها نتنياهو طوال العقدين الماضيين بتحالفاته السياسية مع أقصى الأحزاب الدينية تشدداً، وخضوعه التام لابتزازها الديني وابتزاز جماعات المستوطنين.على أي حال، المفاجآت واردة، وليست نهائية، وقد يقبل غانتس تحالفاً مع الليكود، بزعامة نتنياهو، شرط ألا يكون رئيساً مناوباً للوزراء، والمتصور أن يحدث تحالف يسمح بتشكيل حكومة وحدة بين أكبر حزبين فائزين، في حال انقلب الليكود على نتيناهو، ولا سيما في حال توجيه لائحة اتهام له، واختار الليكود زعيماً آخر يمكن التعامل معه. ولكن الاعتبارات الزمنية، والمدة التي تتوفر لغانتس لتشكيل الحكومة في حدود 45 يوماً قد لا تكفي لتغيير قيادة الليكود على النحو السابق. كذلك، فإن نتنياهو لن يترك غانتس يهنأ بفرصة تشكيل الحكومة، وأهم خطوة يعتقد أنها ستقضي على آمال غانتس في قيادة الحكومة المنتظرة، تكمن في منع حصول مشاركة من أحزاب دينية صغيرة مع حزب «أزرق - أبيض»، وهو ما تمثل في الاتفاق المبدئي على تشكيل كتلة يمين صهيونية، تجمع الليكود والأحزاب الدينية في حدود 53 مقعداً.ورغم هذا، فإن الانتهازية المعروفة عن الأحزاب الدينية الصغيرة، قد تُبدد مثل هذا الاتفاق إذا ما قدّم لها غانتس بعض الامتيازات المحسوبة، التي لا تضر الأفكار الرئيسة لحزبه، المتعلقة بالعلمانية واستعادة السمات الليبرالية للمجتمع الإسرائيلي والتخلص من ميراث حكم نتنياهو.والظاهر هنا أن لعبة الأرقام وتشكيل أغلبية في 61 مقعداً أو أكثر قليلاً ستظل مرهونة بالموقف الذي سيلتزم به أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، وحسب ما أعلن، فإن تفضيله الأول هو في تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع «أزرق - أبيض» و«الليكود» وحزبه، إضافة إلى أحزاب صهيونية أخرى أقل تشدداً دينياً، ما يشكل أساساً لحكومة قوية من وجهة نظره، تستند إلى أغلبية تفوق 73 مقعداً.الإشكالية الكبرى في هذا السيناريو تكمن في أن هذه الحكومة القوية إن تشكلت سوف تعطى الحق للكتلة العربية، ممثلة في القائمة المشتركة ذات الـ13 مقعداً، والترتيب الثالث، في قيادة المعارضة داخل الكنيست. وهي قيادة تمنح الحق لشاغلها، بعض الحقوق السياسية والدستورية، أبرزها الحق في الحصول على إفادات دورية من رئيس الوزراء حول السياسات المختلفة، ومن رئيس «الموساد» حول الأوضاع الأمنية، والحق في التحدث بعد رئيس الوزراء مباشرة في اجتماعات الكنيست، والحق في لقاء الرؤساء والشخصيات الرسمية التي تزور إسرائيل.هذه الحقوق حال قيام أيمن عودة، رئيس القائمة العربية المشتركة، بها ستعنى تحولاً كبيراً في أداء الكنيست، على الأقل من زاوية ظهور القومية الفلسطينية كمكون رئيسي في الدولة العبرية، وأن إسرائيل ليست دولة لليهود وحسب، وفقاً لقانون القومية اليهودية المثير للجدل، وأنها أقرب إلى دولة ذات ثنائية قومية، إحداها تمارس الغطرسة والتسلط والعنصرية، والأخرى تناضل بكل السبل لإبطال مفعول السياسات العنصرية. وبالقطع، سيكون هناك تأثير آخر في أمور كثيرة، من بينها الموازنات التي سيتم تخصيصها للمناطق والبلدات العربية، والتخفف ولو جزئياً من المضامين العنصرية في أداء المؤسسات، والتي ارتفعت إلى السماء في فترة نتنياهو. ومع ذلك، فمن العقلانية التحسب لألاعيب حزبية صهيونية تؤدى إلى تشكيل تحالف يميني يفوق عدد مقاعده مقاعد القائمة المشتركة، ويطالب بالحق في رئاسة المعارضة، وبالتالي تُحرم القائمة العربية من هذا الحق. كما أن خروج الليكود من أي حكومة وحدة وطنية، يعني أنه سيكون رئيس المعارضة. وهكذا تبدو الأمور كلها أشبه بلعبة الكراسي المتحركة. ناهيك عن احتمال الذهاب إلى انتخابات أخرى في فبراير (شباط) المقبل، في حال فشل غانتس في تشكيل حكومة ذات أغلبية، وفشل نتنياهو نفسه في تشكيل الحكومة إذا أعطى فرصة أسبوعين المقررة قانونياً.ويظل التساؤل، هل يمكن في مثل هذه الحالة أن تمتد تأثيرات أخرى إلى الموقف بشأن القضية الفلسطينية، وهل سيكون لذلك أثر يُذكر بالنسبة لما يعرف بصفقة القرن الأميركية؟ والأقرب إلى المنطق أن ثمة تأثيرات ستحدث بالنسبة للأفكار الأميركية، لكن تحديد اتجاهها سيكون غير ممكن، لأننا ببساطة لا نعرف مبادئها السياسية التي قامت عليها، اللهم سوى أنها لا تتعامل مع فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، فضلاً عن أن مثل هذه الحكومة المتصورة تجتمع على مبدأ رفض الحقوق الفلسطينية، وتؤمن مكوناتها وإن بدرجات مختلفة بالسيطرة على الأراضي المحتلة لاعتبارات أمنية.
مشاركة :