تقوم العلاقة بين الشعر العربي الفصيح والشعر الشعبي (العامي) الذي يلقى انتشارا واسعا في منطقة الخليج العربي على البناء والتكامل والتأثر والتأثير حتى وإن وصفت في بعض الأحيان بأنها علاقة غير منسجمة. حيث يتداخل الأدب الشعبي في ثقافتنا العربية مع الأدب الفصيح على صعيد المادة والشكل، وكل منهما يغذي الآخر ويمده بالمضامين الأدبية والأدوات الفنية. قبل أن تشتد حدة التمايز اللغوي بين العامي والفصيح كان الأدب العربي في عصوره المبكرة وفي فجر نشأته أدبا شعبيا يصاغ بلغة كانت آنذاك هي لغة الناس اليومية، كما يعتبرالشعر العامي واحدا من المكونات الثقافية المهمة في أدبنا بوجه عام وهو جزء مهم من التراث الثقافي، له أبعاده الكثيرة التي تسهم في تكوين رؤية جديدة للشعر الفصيح. حيث لعب دورا حيويا في مراحل سابقة وتطور خطابه ومستوياته اللغوية والصوتية والأسلوبية وثمة شعراء يقدمون نصوصا إبداعية عامية تحمل صورا جديدة غاية في الدهشة. إن لغة الشعر النبطي هي اللهجة البدوية عامة والنجدية خاصة، هذه اللهجة التي لم تبتعد عن أصلها الفصيح بمقدار ابتعاد اللهجات الحضرية الأخرى، وتمتاز اللهجة البدوية عن غيرها بإيقاعها الذي يقترب من الإيقاع الفصيح. وفي غالب الأحيان لاتحتاج الكلمة لكي تعود إلى إيقاعها السليم سوى تحريك ساكن طارئ على أحد حروفها، ما جعل الشعر النبطي المكتوب شديد القرب من الفصيح، وجعله سهل التقطيع والوزن بميزان الشعر التقليدي وتفاعيله. الأدب الفصيح والأدب الشعبي وجهان ناصعان لعملة واحدة هي التراث الإنساني العربي، وإن منزلة الأدب الشعبي في إثراء التراث العربي لا تقل في أهميتها وفعاليتها عن الشعر الفصيح ولكنها تغنيه وتثريه عمقاً وتأصيلاً وذلك لما للأدب الشعبي بحكم تكوينه ومجال انطلاقه وممارساته من مقدرة فعالة في تغطية الجوانب الدقيقة لحياة المجتمع وعلاقاته الخاصة التي تقف عند حدود الأدب الفصيح دون التغلغل في تصويرها. بهذا المنظور فإن الاستعراض لعلاقات التأثير والتأثر بين الأدب العامي والأدب الفصيح، يثير العديد من القضايا الجوهرية والأسئلة المحورية التي لم تحظ حتى الآن بما تستحقه من اهتمام وتركيز، مثل تحديد معالم الأدب الشعبي العربي وتعريفه وما طبيعة وعمق العلاقة القائمة في ثقافتنا بين الأدبين الشفهي والمكتوب، أو العامي والفصيح؟ كما أنه لا بد من تحديد موقفنا حيال قضية اللغة والشكل والمضمون ودور كل منها في تحديد مستوى الأدب ودوره ومكانته الفنية والاجتماعية. والإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب بطبيعة الحال رصد نقاط التوافق والاختلاف بين الأدب العامي والأدب الفصيح وتتبع حركة التفاعل بين هذين الأدبين في إطارها التاريخي والحضاري. كما يمكن استلهام المصادر العربية القديمة والاتكاء عليها إلى جانب المصادر الشفهية والتحريرية المعاصرة لجمع مادة وعناصر المأثور الشعبي ورصد العمق التاريخي والبعد الجغرافي لهذه العناصر. عند تناول علاقة الشعر النبطي بالشعر الفصيح يجب التمييز بين نوعين هما: العلاقة الأدبية والعلاقة التاريخية/الحضارية، فالعلاقة الأدبية علاقة مصطنعة مبنية على المحاكاة الشعورية والتقليد الواعي نتيجة قراءة شعراء النبط المتعلمين كتب الأدب واطلاعهم المباشر على الشعر الفصيح، أما العلاقة التاريخية/الحضارية فإنها علاقة طبيعية عضوية أساسها النسب اللغوي والفني وقوامها الاستمرارية التاريخية بين مجتمعات الجزيرة العربية من العصور القديمة حتى الآن، لذلك فهي أعمق من كونها مجرد علاقة تشابه معانٍ أو تطابق صور. و الشاعران، النبطي والفصيح، يلتقيان على صعيد واحد من الرؤية الحضارية والحس الفني وشعرهما ليس إلا صدى لنفس الظروف الطبيعية والاجتماعية. وإذا كانت العلاقة الأدبية واضحة المعالم بارزة السمات ونستطيع تحديدها والإشارة إليها من دون غموض، فإن العلاقة التاريخية/الحضارية مسألة في منتهى الشفافية لا يمكن تشخيصها والإيماء إليها بسهولة ويسر، بل لا بد من إعمال الفكر وكد الذهن للغوص إليها واستجلائها وعرضها أمام القارئ. وهذا بالطبع لا يعني أنها علاقة باهتة خافتة يصعب إدراكها، بل هي على العكس قوية متينة نحس بها للوهلة الاولى. ولكن المشكلة هنا تتلخص في كيفية التعرف إلى أوجه هذه العلاقة وتحديد مصادرها وقنواتها وفصلها عن العلاقة الأدبية القائمة على التقليد والمحاكاة.
مشاركة :