ضياع في يوم شتائيوهو في طريقهِ إلى عملهِ في صباحِ يومٍ شديد البرودة، مشبعة برطوبة عالية. كان يقود سيارته وهو يرتدي بذلة زرقاء غامقة وربطة عنق حمراء ويلف حول رقبته ايشارب كستنائي اللون، لونهُ المفضّل. كان الضبابُ الكثيف يهمي شيئًا فشيئًا حتى شعر أن الرؤية بدأت تنعدم. أصبح يسوق مسترشدًا بالخطوط البيضاء المرسومة على جانبي الشارع. كانت الزحمة على أشدَّها وبالكاد كانت السيارات تتحرك تاركةً مصابيحها مضيئة لتفادي الاصطدام بينما كانت أبواق السيارات تتصاعد بين حينٍ وآخر وكأنهم فقدوا أعصابهم من هذه الورطة المثيرة للأعصاب. استسلم للوضع، وبدأ يستمع إلى فيروز وصوتها المخملي يهدهد الروح، فسرح بفكره وحركة المرور متوقفة تمامًا. سرحَ وسرحَ واستبدَّ به الحنين إلى أزمنة غادرته دون رجعة. سرحَ وسرحَ وراحَ فكره بعيدًا جدً جدًا حتى انه من سأم الانتظار شعر بالنعاس فهو عادةً لا ينام نومًا عميقًا بسبب وحوشه النهارية التي تداهمه وهو في أعماق نومه.بعد قليل بدأ الضباب ينقشع شيئًا فشيئًا ووجد نفسه فجأةً انه الوحيد في الشارع، لا يدري أين اختفت أرتال السيارات بهذا الشكل الفجائي. واكتشف أن الشوارع ليست هي الشوارع التي تعوّد عليها حتى انه شعر بالضياع لأنه فقد حس الاتجاه وكأن الجهات تبعثرت ودخل في منطقة رملية، لا مبانٍ ولا إسفلت ولا أعمدة نور.. فضاء شاسع.لا شيء غير الرمال والسماء والصمت. استمر في سياقته والخوفُ يدبُّ في أوصاله، ملتفتًا يمينًا ويسارًا فربما يرى أحدًا أو سيارة أو أي كائن. شعر انه وسط العدم لا إشارة للحياة ولا حركة. قرر أن يقود سيارته بأقصى سرعتها فربما يصل إلى مكانٍ معروف، حتى وجد نفسه أمام غابةٍ شاسعة لا حدود لها، خضرة كثيفة تغطي المكان، فشعر بالصدمة، فليس هناك غابات في بلاده!نزل من سيارته بعد أن شعر بالعطش ودخل الغابة فربما يجد ماءً فوجد أمامه في مقدمة الغابة جدول ماءٍ رقراق فشرب حتى ارتوى. أغوته الغابة بجمالها الأخاذ ودخل يستطلع على الرغم من ذهوله وشعوره بالذعر الشديد لكنه لم يجد أمامه أي خيارٍ آخر سوى الولوج إلى قلب هذه الأحراش فربما يرى أحدًا يخبره عن هذا المكان وأين هو بالضبط.كانت الغابةُ مليئةٌ بأشجار الفواكه المختلفة وكانت منسقة تنسيقًا رائعًا مما أكد له أن هناك أناسا يشرفون على تشذيب هذه الأشجار الخلابة.بدأ بالولوج خطوة خطوة وبحذر شديد حتى شعر بأصواتٍ من بعيد.. ضجيج وأصوات أناس كثيرين بدأت أصواتهم تتعالى شيئًا فشيئًا كلما تقدم.أخذ يسير في اتجاه الأصوات حتى شعر أنها أصوات أناس لا حصر لهم ربما آلاف.. ربما ملايين البشر. أصوات غريبة ولغات عديدة متنوعة.من بعيد تراءت له قلعة ضخمة جدًا لا يكاد يتخيل بدايتها ولا نهايتها وطوابق عديدة تتجاوز الغيم. سار وقتًا طويلًا بدا له انه ساعات وساعات، حتى شعر انه بلغ قريبًا من القلعة التي كان بابها بنيًا من خشب تقليدي معتّق.أخيرًا وصل إلى غايته، لمس الباب الضخم فسمع أصواتا كثيرة تقول له: ابتعد أيها الغريب! لكنه أصرّ على أن يفتح الباب. أمسك بالمزلاج ودفعه بكل قوته وانفتح الباب بكل سهولة ويا للهول رأى أشخاصًا لا عدد لهم يقفون بعيدًا وهم يرتدون أسمالًا ناصعة البياض. فجأة شاهدهم وهم يركضون جميعهم في اتجاه الباب أو ربما نحوه.. عندما دقق النظر في وجوههم التي بدأت تدنو ببطء: رأى وجه أمه وهي تبتسم له بحنان، رأى وجه أبيه وهو يحدّق فيه بحب وشوق، رأى إخوته وأفرادًا من عائلته وجيرانه وأصدقائه الذين غادروا الدنيا منذ سنوات. حاول أن يتوقّف ليحتضن أمه وأباه اللذين يشعر نحوهما بحنين جارف، إنها لحظة نادرة من لحظات الزمن ربما لن تعود، لكنه انتبه فجأةً أنهم بدأوا يعدون في اتجاهه بسرعة هائلة. عدد هائل لا يحصى ينظرون إليه ويركضون. أسرع إلى الباب وأغلقه خلفه وبدأ يعدو ويعدو ساعاتٍ طويلة حتى بلغ سيارته. ركب وودّع المكان وهو في ذعر عظيم كأنه استيقظ من كابوسٍ أو كأنّه سقط من أعلى قمةٍ في الجبل ولم يصب بشيء. هل كانَ يحلم، إنه ليس متأكدًا تمامًا!!Alqaed2@gmail.com
مشاركة :