ننشر فصلًا من رواية أطفال لا ترى الملائكة للكاتب أشرف الخضرى

  • 4/13/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تنشر البوابة نيوز فصلا من رواية "أطفال لا ترى الملائكة" - تحت الطبع- للكاتب أشرف الخضري، ويحمل الفصل الثالث عنوان حسناء وعذارء،حسناء وعذراء ناموا جميعا في مقاعدهم وبقيت مستيقظا لا أرفع عيني عن السائق ولا أتوقف عن الكلام خوفا أن ينام على عجلة القيادة ويقتلنا نحن العشرة في سنة من النوم.السيارة موديل العام 1992، مقاعدها وثيرة لم يفض النايلون من عليها بعد، تعجبت ما الذي يجبر هذا السائق على استخدام سيارة جديدة كوسيلة نقل صيادين هواة إلى قرية نائية، لكنني عندما رأيت شغفه بصيد سمك البلطي من مصارف صغيرة تنتشر في أراضي البطيخ الشاسعة، وجدت إجابة عن سؤالي؛ لماذا يقحم سيارة فارهة في رحلة مهينة ستملؤها بالرمال والذباب والروائح النتنة.انطلقنا قبيل الفجر، وسمعنا الآذان في طريقنا من المساجد المنتشرة على يمين الطريق من دمياط إلى قرية الركابية، ولما قال أحد الصيادين نريد أن ندرك الصلاة، قال السائق بحزم:سنصلي في مدينة جمصة إن شاء الله.خرجنا من المسجد الصغير وواصلنا الرحلة، النهار بدأ يتشكل كضوء أبيض يرافق الندى الرطب ويتسلل بنعومة إلى صدور الكائنات الحية فينعشها ويملؤها بالأمل المتذبذب قبل أن تغرس الشمس قدميها في نهر الحياة الدافق.توقف الميكروباص وقال الأسطى مهران السائق حمدا لله على السلامة، وبدأ الهواة يستيقظون وينتبهون من نومهم المؤرق النهم كأنهم حزانى لا ينامون في البيوت أبدا.سألت أين سنصطاد؟! فأشار مهران إلى مصرف طويل يبدأ مع انحدار الأرض وينخفض كمهبط كوبري، نزل البعض إلى المصرف أما الهواة العجائز الخبراء فقاموا بتغفيلنا وتسللوا إلى مصرف آخر لم نعرف أين هو ولا هم.مضت الدقائق وصديقي ياسر بجانبي وأنا أقلده في تصرفاته وتكنيكاته فهو خبير صيد بلطي وأنا مستجد.الشمس أشرقت وبدأت الأسماك تناوش الطعوم في السنانير، ومع سمكته الصغيرة الثالثة قال:-هذه السمكة حبلى.سألته كيف عرفت؟!قال: بطنها تكاد تنفجر من الانتفاخ،ضغط بالأصبعين على بطنها فبرز البيض الأصفر الصغير من فتحة الميلاد،قال:سوف تبيض هذه الأسماك الصغيرة قريبا جدا ربما عندما نأتي في الجمعة القادمة لن نجد هذه الأسماك حبلى.سألته وهل تحبل أسماك البلطي مرة واحدة كل عام؟!ضحك وأخبرني أنها تحبل وتبيض عدة مرات يعرفها الصيادون جيدا، نظر لي وقال نحن مجرد هواة صيد بالسنارة، ثم مشى للأمام عدة خطوات وقال غير موقعك لتقع الأسماك الكبيرة في سنارتك فالبقاء في بقعة واحدة لا يسمح لك بصيد جيد!فعلت مثلما يفعل، نتحرك مترين ونلقي الطعم وعندما تتقلص أعداد البلطي متوسطة الحجم وتكثر الأسماك الصغيرة نتحرك للبحث عن سمك أكبر.تذكرت حادثة شهيرة لرئيس أمريكي سابق، خرج في رحلة صيد مع وزيرين من وزرائه واتفق الرجال الثلاثة أنه من تقع في سنارته أكبر سمكة يتكفل بدفع فاتورة غداء فاخر في مطعم شهير بمدينة منهاتن، تنهد الرئيس وهو يحكي ذكرياته للصحفي العجوز وقال بحسرة: الخبيثان كان لدى كل واحد منهما سمكة في سنارته لكنهما رفضا اصطيادها كي لا يتورطان في العزومة!سأله الصحفي وأنت يا سيدي الرئيس ماذا فعلت: قال بثقة أنا لم أضع طعما في السنارة من الأصل!المصرف لم يكن عميقا، فعندما رفعت غمازتي أقل من متر واحد وألقيت الطعم طفت الغمازة على سطح الماء!استغربت ولم أفهم ما حدث فهذه رحلتي الأولى لقلابشو سألت ياسر لماذا تنام غمازتي على بطنها؟! قال لأن عمق المصرف أقل من طول المسافة بين قطعة الرصاص والغمازة، قلل العمق شبرا أو شبرين حتى تطفو الغمازة.رائحة روث الجواميس المكدس أكواما في كل مكان عبر الأرض الشاسعة المزروعة بثمار البطيخ تخنقنا، وكلما ارتفعت الشمس أكثر انتشر الذباب وطاردنا حيثما نسير، مصنع سكر بلقاس يبدو هائلا وضخما رغم المسافة الطويلة بيننا وبينه وجرارات البنجر تمر على الطريق الرئيسى باتجاهه وعندما سألت ياسر متعجبا كل هذه الثمار من اللفت إلى أين فقال ضاحكا هذه ثمار البنجر تتوجه إلى مصنع سكر بلقاس، ذلك المبنى الكبير الأزرق هناك في البعيد حيث يتم تحويل الثمار إلى سكر مطحون ومكعبات.رغم وفرة الأسماك أزعجنا الذباب جدا وعندما انقطع النسيم خرجت علينا أسراب البعوض من مكامنها في أكوام الروث، لم نكن نملك الخبرة للتعامل مع أسراب البعوض والذباب، فقط نرتدي قبعات لحمايتنا من الشمس، ومع كل جمبرياية صغيرة نغرسها في السنارة كطعم ونلقي رأسها على الأرض ينهمر الذباب على أيدينا وعلى الرؤوس المقطعة.البعوض أوشك أن يغطي وجوهنا أما الذباب فكان يتعمد محاولة الدخول في الأفواه وفتحات الأنوف، وعندما تندفع ذبابة وتجرب الدخول عبر تجويف الأذن أو الأنف تصيبنا صدمة مفاجئة فنرمي البوصة من يدنا ونسرع لمنع الذبابة من النفاذ إلى داخل أدمغتنا.هذه رحلة عذاب وليست رحلة صيد، أحقا هذه قلابشو الشهيرة؟!قال ياسر الشمس والجو الدافيء حررا البعوض والذباب، كنا هنا نهايات الشتاء في مارس وأبريل ولم نر هذه الأسراب المتوحشة.سألته وما العمل؟!هو أكبر مني بعامين،هو في الثانية والعشرين،ابن عمتي الكبرى،من كثرة حديثه عن روعة الصيد وشبار وبطيخ قلابشو،صممت أن أجيء معهم،يقف الميكروباص أمام مقهى كركر عند مطلع الكوبري الخرساني العلوي في منتصف المدينة، وعندما تتم الحمولة ينطلق للحصول على الطعم من السوق الكبير."جمبري أبو سبعة" طعمنا الأساسي يسميه الصيادون ديلب، بعد الحصول على الطعم ننطلق كي ندرك الضوء الأول للنهار على مصارف الصيد، يقرأ الجميع الفاتحة، وتبدأ الأساطير والحكايات والأكاذيب التي تبهج القلب،وتنتهي بالنعاس والسيارة تنطلق بنا عبر الطريق في الطرف الأخير من الخيط الأسود.كنا نغسل أيدينا باستمرار من ماء المصرف في محاولة بائسة لصرف الذباب عن أيدينا، ونهش بيدنا اليسرى ونتحرك بشكل دائم، فإذا خرجت نسمة هواء قوية تحسنت الأوضاع، وإذا سيطرت الشمس بدفئها عادت أفواه الذباب تلسعنا كالإبر!جيش ضعيف تهزمه نسمات طفيفة؛كشف ضعفنا كبشر؛قلت لياسر لو هاجمتنا هذه الأسراب من البعوض كما يفعل النحل القاتل؛من السهل أن نموت هنا.

مشاركة :