مصطفى الشيمى يكتب: الجروح الغائرة

  • 5/29/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أعلم أنه ليس الوقت المناسب كى أحدث ثقبا صغيرا فى جدار موضوع الساعة و كيفية التغلب على الفيروس والوقاية منه ولكن راودنى إحساس أن هناك أشياء تُحدِث آلام لا يمكن أن تلتئم وهى أيضا ليس لديها علاج واضح أو تجارب معملية.. ولا يصلح تجريب لقاحها على الحيوان ، فمنبعها الإنسان ويحصدها أيضًا الإنسان وتتسبب فى جروح غائرة تظل تنخر فى صلب العقل والقلب دون رحمه وترفض كل محاولات النسيان أو الإهمال ، وجدت نفسى أمام مشهد جذب انتباهى لرساله من قارئة إلى خبير أسرى في صحيفة نيويورك تايمز تقول فيها:" أنا امرأة تبلغ من العمر 50 عامًا، لقد تزوجت من رجل رائع منذ خمس وعشرين سنة، لدينا ثلاثة أطفال، اثنان منهما من خريجي الكليات، وأصغرهم يدرس في المدرسة الثانوية، أنا أحب مسيرتي في الحياة واعتبر نفسي ناجحة جدًا، أمارس الرياضة بانتظام وأتمتع بصحة جيدة، لقد عانيت من الاكتئاب في الماضي لكنني في حالة جيدة الآن ،والمشكلة هي أنه عندما أنظر إلى المرآة، أرى وجه أمي، لقد أساءت إليّ لفظيًا طوال حياتي، وما زالت تفعل ذلك، وهذا الأمر دفعني إلى أن أكرهها بشكل كبير، لقد دفعتني إلى أخذ علاج نفسي، وأنا حاليًا أُبقي علاقتي معها سطحية جدًا من أجل حماية نفسي من لسانها اللاذع و في كل مرة أنظر فيها إلي المرآة أرى وجه أمي لأني أشبهها كثيرًا، وهذا الأمر يزعجني بشكل كبير، فأنا أبدو في الشكل مثلها تمامًا ولا أريد أن أكون كذلك، لا أريد أن أكون امرأة مسنة متعجرفة ،أود الحصول على عملية تجميل لتساعدني من جهة في إعطائي نظرة أكثر شبابًا، وأغير قليلًا من شبهي بأمي "هذا المشهد توقفت أمامه مفكرًا كثيرًا .. استشعر تلك المعركة التي تركت آثارًا غائرة في نفس كاتبة الرسالة ، وإن الألم المكتوم هو أشد وطأة على النفس من الألم الصريح المعلن الذى لا يجد صاحبه حرجًا في أن يتحدث عنه أو يشكو منه وجزء هام من ما تقوم بيه وظيفة الإفضاء النفسية ، هو أن تخفف تلك الجروح بمجرد الحديث عنها والتعامل معها كحقيقة من حقائق الحياة التي لايخجل منها الإنسان ولا يحتاج إلى التخفى بها عن الآخرين ، والأهم دائمًا هو أن يستفيد الإنسان من أخطاء مراحل العمر ، وأن يستعين بخبرة الألم التي اكتسبها حتى يتفادى عقبات الحياة وعثراتها ،ولا مفر من أن يراجع الإنسان حياته من حين لآخر ، لأن أسوأ ما يفعله بعض الآباء و الأمهات بأبنائهم هو أن يحرموهم من حقهم الإنسانى العادل في أن تكون  لهم طفولة سعيدة ، حتى في أسوأ الظروف يمكن أن يقدموا لأبنائهم الحب والرعاية والعطف والحماية النفسية والاكتمال النفسى حتى لا تفسد طفولتهم من النبذ والإحساس الداخلى بالذنب عن وجودهم بين أبوين غير متوافقين أو التفرقة بين الأقارب الذى يعد من أفظع ما يتعرض له الإنسان بدون سبب واضح ليورث مشاعر الكره بين أبناء الاسرة الواحدة بسبب بث مشاعر التفضيل بين الابن والآخر أو الأخت والأخ .... النفس البشرية مازالت غابة لم نكتشف من مجاهلها إلا القليل ، ومن أهم هذه الأسرار التي تستعصى على الفهم أن تكره أم أو أب أحد الأبناء لارتباطه عاطفيًا بالطرف الآخر الذى يتحامل عليه ويكرهه ، برغم أنه أبن للطرفين معًا ، ولم ينفرد أحدهما بإنجابه ، أما مسئوليتنا نحن عن ارتكاب هذه الأخطاء فنحن نتناساها ويزعجنا أن يذكرنا بها أحد .. ويكون الفزع الأكبر الذى يخيف أي شخص هو أنه يشعر دائمًا بأنه غير محبوب أو مرغوب فيه ، وما يترتب علية من انفجار الغضب المكتوم بداخله ،  والتعبير عن الغضب قد يصل إلى تغير الملامح بإجراء عملية تجميل لمحو الشبه الوراثى المحمل في جينات الفرد حتى لا يتذكر تلك الجروح الغائرة من سهم الكلمة أو عنصرية التفرقة  والتي تظل تنزف وتحرم الشخص من الحق الطبيعى في الحب والرعاية والمعاملة الإنسانية العادلة ، وتكدر صفو الحياة بأركانها وتمحو الشعور بعزة الانتماء لِأسرة متحابه تهتم بأمره وتحنو عليه .وهذا الوضع القهرى يضيق بين البدائل المتاحة ، لا وجه للمقارنة من الأصل بينها . كأن يجد الإنسان نفسة في طريق مظلم وسيارة مسرعة تقترب منه لتداهمه ، فيكون الاختيار المتاح أمامه هو التجمد في موقعه لتصدمه هذه السيارة ، أو القفذ بعيدًا لينجو من الموت ، وغريزيًا سوف يختار الإنسان النجاة ولكن في هذه الحالة يعد الاختيار قهريًا لا بديل لعاقل سواهو تظل هناك جروح غائرة تمضى مع الأيام دون أن ترحل.

مشاركة :