بعد الصدى الذى ناله المقال السابق " الجروح الغائرة " فى محاولة للهرب من رعب الجائحة والتقارير اليومية و اعداد المصابين، أخرجنا الله وإياكم سالمين من هذه الأيام الثقال كما أخرج يونس من الظلمات الثلاث ، فقد حاولت التسلل إلى جوف الإنسان وتقليص ما عانى منه على مدار عقود يعيش فيها مُحملا بجرح اشتعلت أوجاعه كلما خطر على البال وكأنه حدث منذ ساعات ، والتوصل إلى أن هذه الأحداث الصغيرة تترك أثرًا كبيرًا فى النفس والتفكير.وكعادتى أهملت كثيرًا من الأشياء مللًا ، وتراكم التفكير الصامت على أروقتى ، وقعت عينى على أوراق النتيجة السنوية المخصص لها ركن مميز فى منزلي ، كنت أعتاد أن أنتزع منها ورقة بشكل يومى منتظم ورقة تلو الأخرى ، ترقبًا ليوم جديد ، يوم أتوسم فيه بداية جديدة تؤكد أن ما مضى مجرد حلم، وأملًا فى معالجة ما تبقى من سنين العمر التي تُستنزَف كل يوم بسقوط ورقة عالقة في شجرة العمر ، وقعت عينى على حكمة مدونة أسفل الورقة تحمل عبارة تحتاج التأمل والتدقيق للمفكر الفرنسي " فولتير " فى روايته " كانديد" قال : " ثمة متعة فى انتقاد كل شيء .. وفى كشف الأخطاء فيما يراه الآخرون جميلًا "، وجدت أن النشاط الأكثر تداولًا بين الناس هو الانتقاد والشكوى وكيفية توجيه الإدانة وتحمل المسئولية والسعادة بكشف الأخطاء فيما يراه غيرنا جميلًا ، لتحدث فجوة نفسية مع من نحبهم ونريد أفضل الاشياء فى الحياة لهم . ونرهقهم بمزيد من التعليمات فى أبسط المهام المسندة إليهم ونعنفهم بشكل مستمر لما وصلوا إليه من نتائج.أنعم الله علينا بالعديد من النعم ، ولكن طبع الإنسان غالبًا ما يفسد التمتع بها بتركيز انتباهه على صغائر الأمور حتى لو كانت صائبة، فما تصورناه يومًا من الخيال والمستحيل قد تأكدنا بمرور الأيام أنه حقيقة يمكن تحقيقها، استطاع الإنسان أن يهدم جبلا ويعبر بحرًا ويهزم ما كان مستحيلا مع توافر العزم وصدق النية ولكن فى نفس الوقت لا يستطيع أن ينسى بسهولة من أسقطه أرضًا من شطحات نقده المبنيه على الأفكار العجيبة ، فكل إنسان فى النهاية سجين طبعه وخلق بنقصه والكمال ليس من صفه البشر . فالشرط الوحيد الذى يقبل بتتبع كل تحركاتك وإبراز عيوبك هو أن تكون كاملًا فقط . تصفحت العديد من سير العظماء الذين ساهموا بإنجازات لولاهم ما تحققت ، فلو التفت توماس ايديسون مخترع المصباح الكهربائى لانتقاد معلمه الذى وصفه بأنه " غبى جدًا " لما أُضِيئَت بيوتنا ، وإن التفتت المذيعة أوبرا وينفرى لانتقادها ، بعد طردها من عملها كمذيعة أخبار لأنها لا تصلح أن تظهر على التلفاز ، لما صارت أفضل مقدمة برامج فى العالم ، أما العالم ألبرت اينشتاين عالم الفيزياء الحاصل على جائزة نوبل فقد تعرض للتوبيخ من معلمته لأنه لم يكن يستطيع التحدث فى الرابعة من عمره وأنه لن يصبح شخصًا ذا قيمة فى المستقبل . فأين مساهمة هذه المعلمة الآن والتى لم يذكر التاريخ اسمها مقارنة بما حققه هذا العالم الفريد الذى تبرع بمخه للأغراض العلمية بعد وفاته ، وإذا بالمفاجأة حيث وجد الأطباء هذا المخ العبقرى أصغر حجمًا من المخ الطبيعى وهو ما يؤكد أن المسألة ليست بالحجم. !فى حياتنا اليومية سواء فى العمل أو فى أماكن أخرى، نتعرف على أشخاص ينتقدون دائمًا من حولهم انتقادات لاذعة وهنا تحدث المفارقة بين الطريقة والأسلوب ، فهناك اختلاف بأن يُوَجَه إليك اللوم والنقد على إضاعة الوقت أو لعدم اتقان العمل ، أو أن يُقال لك "عملك جيدًا ولكن هذا القميص يجعلك تبدو سمينًا " . فقد يجعل النقد السلبي الإنسان أسيرًا للاتجاه المخالف مُبررًا ذلك بأنه على يقين أن قيامه بعمل سلبي أو إيجابي سينال الكثير من الانتقادات ، و أحيانًا قد يحتاج الإنسان إلي أوقات يعبر بها عن جنونه والابتعاد قليلًا عن المثالية التي تكون كالقيد الحديدى على معصم اليد ، وصدق سفيان الثورى عندما قال " من عرف نفسه لم يضره ما قاله الناس عنه " .ومن المنظور النفسي فالانتقاد ثقافة واسعة تُشبه السكين ، إن لم يمسكها الشخص بالطريقة الصحيحة قد يؤذي ويجرح بها غيره ، بداية من نبرة الصوت مرورًا باختيار الزمان والمكان مع ضرورة مراعاة نفسية الشخص المُوجه إليه النقد ، حتى يكون بمثابة الهدية الثمينة . فلا يكفى أن يكون الإنسان أمينًا ويحمل النيه الطيبة تجاه الآخرين فقط ، بل يجب أن يكون أيضًا متمتعًا بحسن الادراك والفهم ... لأننا قد نُسِيء إلى الآخرين بعدم الادراك والفهم واختيار التوقيت المناسب ، أكثر مما قد نُسِيء إليهم بالقسوة والظلم وهدم النفس والعزلة والاحباط .
مشاركة :