صور تجمع أزمنة وأماكن شتى مثل كلمات وحروف متقاطعة، وعليك جمعها من أجل أن يتكامل المشهد في سيرة ذاتية تنتقل أمامنا من الأرشيف والتاريخ إلى حياة يومية صاخبة ومليئة بالصراعات. تلك هي سينما السيرة الذاتية التي تحتل موقعا يجاور الأنواع السينمائية الأخرى، وهو ما يؤكده فيلم سيرجيو للمخرج كريك باركر. يمكننا اعتبار سيرة سيرجيو دي ميلو منجزا سينمائيا جديدا لسيرة ذاتية درامية بامتياز، سيرة فيها من الأسرار والأوجاع وقصص النجاح والمغامرة والحب والعاطفة الشيء الكثير. سيرجيو دي ميلو رجل السياسة البارع الذي لا يكاد يترك ساحة من ساحات الصراع من حول العالم إلا وكان له حضور في نقاطها الساخنة، ولا يكاد يغيب صوت الرصاص وأصوات الضحايا وصراخ الساسة وصراعاتهم عن ذاكرته قط. من بنغلاديش فالسودان إلى موزمبيق ثم إلى لبنان فالبيرو ثم إلى كمبوديا فالبوسنة مرورا بكوسوفو وتيمور الشرقية وإندونيسيا وانتهاء بالعراق، حيث لقي حتفه وانطفأ صوته الشجاع إلى الأبد، تلك هي محطات سيرجيو ويوميات حياته في الأمم المتحدة. لا شك أنها حياة ثرية وغزيرة لكن السؤال هو كيف ستظهر فصولها في فيلم سيرجيو، وكيف وماذا سوف ينتقي المخرج منها في إطار سيرة ذاتية فريدة من نوعها؟ سؤال برسم المخرج كريك باركر، مخرج هذا الفيلم من خلال طريقة قراءته لتلك الرحلة الشائقة وطريقة تقديمها إلى الشاشة. 34 عاما في ثلاث دقائق خلف شاشة معتمة نستمع إلى سيرجيو في مقابلة معه، حيث يُطلَب منه أن يختصر مسيرته فيردّ ضاحكا، كيف لي أن أختصر مسيرة 34 عاما في بضع دقائق؟ واقعيّا هي بالفعل سيرة ثرّة وغزيرة وكما عرضنا لمحطّاتها الأساسية لكن كاتب السيناريو والمخرج يبدو أنهما اكتفيا بساحتين من ساحات عمل سيرجيو وهما العراق، حيث الموت المروّع تحت كابوس الغزو الأميركي، لهذا البلد ومن قبلها كانت محطته المهمة في تيمور الشرقية. يظهر سيرجيو (يؤدي الدور الممثل واكنر مورا) في مكتبه بصفته المفوّض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتّحدة ويتحدث عن المعاناة الإنسانية ومدّ يد العون ثم لتتجسم تلك المعاناة بعد هذا المشهد مباشرة إلى واقعة تفجير مقر بعثة الأمم المتحدة في العراقي في 19 أغسطس 2003 حيث سيكون سيرجيو هو من يعاني ويحتاج إلى العون. تحت الركام والدخان وكتل الحجارة سوف يكون سيرجيو هناك هو وفريقه الأممي يلفظون أنفاسهم بعد تفجير مقرّهم غير المحصّن جيدا في فندق القناة بشرقي بغداد ولمّا تزل دبّابات أميركا ومركبات جنودها وقاصفاتها تصول وتجول في ذلك البلد ناشرة القتل والرعب وها قد طال سيرجيو من ذلك موت مؤكد. المخرج اعتمد أسلوبا في السرد الفيلمي قائما في أغلبه على الاستذكارات، وهو حل شائع ولكنه أضرّ بالفيلم إنه هناك تحت الأنقاض، يحتضر، الضابط الأميركي، يبلغ رؤساءه عن الضحايا الذين ما زالوا أحياء تحت الأنقاض وأبرزهم ممثل الأمين العام سيرجيو، وأنه بالإمكان إنقاذه، لكن لن ينقذه أحد وسوف يُترَك لمصيره حتى يلفظ انفاسه. يستخدم المخرج معالجة سينمائية إشكالية فهو أولا سوف ينتقي ساحتين من ساحات عمل سيرجيو من بين العديد من الساحات كما ذكرنا ويسترجع تفاصيل عمله في الساحتين فيما هو ينزف تحت الأنقاض، بمعنى أنه قد أمعن في استخدام الاستذكارات وتراوح الضخ الصوري ما بين مشاهد التفجير والدماء وبين يوميات سيرجيو وهو يؤدي مهام عمله. على خلفية إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش عن غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين وإعلان بدء العمليات العسكرية في هذا البلد يكون سيرجيو قد تسلّم مهام عمله ممثلا للأمين العام في بغداد بعد مقابلة مع بوش نفسه، وكأنّ بوش هو الأمين العام وهو من عيّن سيرجيو في المنصب. أرشيف متنوع وكثيف ولقطات وثائقية سوف تنتهي بنا إلى لحظة وصول سيرجيو إلى العراق هو وفريقه ونزول طائرته في مطار بغداد، لكن ليس ذلك مطار بغداد، وهذا أول أخطاء الجغرافيا المكانية التي وقع فيها المخرج بالتصوير في الأردن على أساس أننا في العراق وفي بغداد تحديدا. لا شك أن الاستهانة بعنصر المكان، الفضاء المحسوس الذي تتفاعل معه الشخصية، هو خطأ إخراجي واضح، فطبيعة العمران على التلال والجبال الواطئة في الأردن هي غيرها في البيئة المنبسطة السهلية – الصحراوية في العراق، وذلك ما لا يمكن التغاضي عنه أو التمويه عليه. وفي صدد المكان الشبيه بالمكان العراقي فقد سبق وأن تم التصوير في مكان يشبه المكان البغدادي لفيلم آخر من الأفلام التي تتحدث عن الاحتلال الأميركي للعراق وهو فيلم منطقة خضراء، حيث اكتشفنا أن أحياء في مدينة الصويرة المغربية تشبه مثيلاتها في بعض أحياء بغداد وهو ما نجح فيه الفيلم على خلاف هذا الفيلم الذي نتحدث عنه. بين سيرجيو وبريمر رحلة سيرجيو دي ميلو من ساحات الحروب والصراعات إلى الشاشة رحلة سيرجيو دي ميلو من ساحات الحروب والصراعات إلى الشاشة يقدّم المخرج شخصية مهمة في تاريخ العراق ما بعد الاحتلال وهو الحاكم الأميركي للعراق بعد الاحتلال بول بريمر (الممثل برادلي ويتفورد) ومنذ البداية يظهر أن الرجلين على طرفي نقيض في مقاربتيهما للأزمة العراقية. بريمر هو الحاكم بأمره في العراق، يظهر محاطا بجيوش أميركا المدجّجة بالسلاح فيعيّن ويعزل ما يشاء من العراقيين ويتصرف في ثروات العراقيين ويأمر بالقصف والقتل، ويتوّج مهمته بإعادة افتتاح أبشع سجن في ذاكرة العراقيين وهو سجن أبوغريب. في مشاهد مؤثرة تجمع بريمر مع سيرجيو يعلنها الأخير صراحة في وجه بريمر أنها ليست بادرة حسنة من طرف أميركا أن تقدّم للعراقيين سجنا ارتبط في أذهانهم بكل أشكال الفظاعات والموت. من هنا سوف يخرج سيرجيو وهو على خلاف مع بريمر ثم يتوّج ذلك بانزعاج بريمر من نجاح سيرجيو في مقابلة السيد علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في العراق، وخروجه بتوصيات منه من أجل إجراء الانتخابات في العراق بينما لم يحظ بريمر بمثل ذلك الامتياز رغم محاولاته العديدة. في مشهد آخر للسجال والصراع الواضح بين الشخصيتين يرفض بريمر قطعيّا مشروع سيرجيو لإعادة الحياة المدنية إلى العراقيين من خلال انتخابات حرّة ونزيهة، بينما يقول “إن مهمة الأمم المتحدة هي مساعدة الشعب العراقي لكي يتخلص من القوات المتعددة الجنسيات وأن يأخذ القرار بيده”. الطريق الذي يسلكه سيرجيو ذهابا وإيابا لا تشاهد فيه إلا مشاهد اضطهاد العراقيين وإهانتهم من طرف القوات الأميركية ولهذا يقول سيرجيو بوضوح “إن الأمم المتحدة غير مرتبطة بما يجري في الشارع ونحن لسنا غطاء لممارسات أيّ جهة كانت، ولم نأت لنؤيد الولايات المتحدة”. معالجة سينمائية إشكالية تسترجع تفاصيل عمل سيرجيو دي ميلو في تيمور الشرقية والعراق فيما هو ينزف تحت الأنقاض معالجة سينمائية إشكالية تسترجع تفاصيل عمل سيرجيو دي ميلو في تيمور الشرقية والعراق فيما هو ينزف تحت الأنقاض تصريحات قاسية جعلت بريمر في وضع تنمّر شديد وانزعاج واضح ولنتأمل هذا الحوار بين الرجلين ثم لنتخيل كيف ستكون نهاية العلاقة بينهما والتي انتهت بمقتل سيرجيو. خلاصة ذلك الحوار أن بريمر يرفض إجراء أيّ انتخابات في العراق على خلاف مشروع الأمم المتحدة بكتابة دستور وانتخابات وتسليم السلطة للعراقيين، ثم ما يثير حفيظة بريمر هو استعداد سيرجيو لتقديم تقرير مفصل إلى مجلس الأمن عن جرائم أميركا وانتهاكاتها في العراق وذلك أثناء نفس يوم اغتياله في التفجير. في وسط الهلع وعشرات الوجوه الدامية سوف تكون هنالك فتاة شابة جميلة تلهج باسم سيرجيو في سلسلة مشاهد مؤثرة وهي كارولينا (الممثلة آنا دي أرماس) وهي مساعدة سيرجيو للشؤون الاقتصادية وحبّه العظيم. سوف نعود في مشاهد استرجاع إلى بدايات تعارف الاثنين في تيمور الشرقية والحب الجارف الذي نشأ بينهما هناك ثم إصرارها على الانتقال مع سيرجيو إلى العراق. لا شك أن منح مساحة واسعة لعلاقة الحب تلك قد استنفدت الكثير ممّا يمكن تقديمه عن سيرة سيرجيو، وواقعيّا لم تكن تلك اللقاءات الغرامية ذات أهمية كبيرة في البناء الفيلمي وصولا إلى المشاهد الحميمية، وكأنها فجوة في شخصية سيرجيو الذي ينشد اللذة فيما هو يقوم بمهامه لإنهاء الصراع بين تيمور الشرقية وأندونيسيا. لكن في المقابل كان إيمان كارولينا بشخص سيرجيو وأدائه ونجاحاته وتقديم بعض الاستشارات له والعمل إلى جانبه وصولا إلى العمل معه في بيئة خطيرة بالعراق، كل ذلك كان محطّة من محطّات سرجيو لولا التوسّع فيها وتقليص مساحة ما هو أهم. ثم نأتي إلى مشاهد احتضار سيرجيو وهو تحت الأنقاض وهو الحل الإخراجي الذي تم استنفاده لتكراره في موازاة حلول أخرى. في هذه المشاهد ليس هنالك الكثير من الجدوى ما عدا تلميحا إلى علم السلطات الأميركية بأن الرجل حيّ تحت الأنقاض، لكنها لم تفعل ما في وسعها لإنقاذه والأدهى والأمر أن بريمر يحضر إلى موقع الانفجار دون أن يفعل شيئا، وكأنه يريد أن يتأكد من التخلص من خصم. اعتمد المخرج أسلوبا في السرد الفيلمي قائما في أغلبه على الاستذكارات، وهو حل شائع ومتداول وكان بالإمكان إظهار سيرة سيرجيو والانتهاء منها بمشاهد التفجير، لكن خطوط السرد تقاطعت بين مشاهد التفجير وحياة سيرجيو الشخصية وعلاقته الغرامية. هذان الخطّان السرديان أضعفا الحبكة الدرامية الأساسية بأن سيرجيو صاحب قضية ومبدأ وليس مجرّد شخص يحمل نثارا مبعثرا من الذكريات ومن الواضح أن البحث في سيرة الشخصية بشكل معمّق لم يتحقق بما فيه الكفاية لغرض إنتاج خطوط سردية إضافية وحبكات ثانوية.والحاصل أن سيرجيو دخل في مسيرة حياته معترك للعديد من الصراعات والمواقف الحادة، ولاسيما في بؤر التوتر التي عمل فيها وفي بيئات متفجّرة، ولربما كان التركيز على مهمته في العراق مثلا هو الأجدى، لولا أن المخرج انتقل بنا إلى تيمور الشرقية ليؤسس لخط عاطفي وخط سردي يرتبطان بمجريات الحياة الشخصية. سيرجيو دي ميلو ولد في 15 مارس 1948 في البرازيل. درس في جامعة السوربون وحاصل على شهادتي دكتوراه في الفلسفة والعلوم الإنسانية. بدأ العمل في الأمم المتحدة منذ العام 1969 في العديد من الساحات، وتدرّج في العديد من المناصب حتى أصبح مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ثم مفوضا ساميا لحقوق الإنسان. توفي في العراق في 19 أغسطس 2003 في حادث تفجير إرهابي. بعد وفاته انتهى دور الأمم المتحدة في العراق واشتعلت الحرب الأهلية.
مشاركة :