عمقت الاضطرابات الأمنية في ليبيا متاعب الاقتصاد التونسي الباحث عن نقطة ضوء في نفق الأزمات المظلم جراء انحسار المبادلات التجارية بين البلدين الجارين في ظل النزاع المستمر وأزمة وباء كورونا وما تبعها من غلق للمنافذ الحدودية، والذي استغلته تركيا لصالحها لتغرق السوق الليبية بسلعها الرخيصة وتقصي المنتجات التونسية باعتبار أن تونس كانت أبرز شريك اقتصادي قبل الحرب. تونس - بدأت ملامح الاتفاقية المثيرة للجدل بين حكومة الوفاق الوطني الليبية وأنقرة تنعكس بوضوح على الاقتصاد التونسي، الذي تضرر بفعل غزو البضائع التركية إلى البلد الجار الغارق في دوامة الحرب منذ تسع سنوات. وحتى قبل إبرام هذه الاتفاقية المبرمة في ديسمبر الماضي، فإن تدابير الإغلاق بسبب وباء كورونا، والاضطرابات على الحدود الجنوبية الشرقية لتونس، دفعت إلى توقف الحركة التجارية على أهم معبرين للبلاد وهما رأس جدير وذهيبة-وازن، ما أضر بالصادرات التونسية. وأكد خبراء اقتصاد وحقوقيون تونسيون لـ”العرب” أن دخول تركيا على خط الأزمة الليبية خلط الأوراق وقوض مساعي تونس لتصدير منتجاتها في سوق أكبر شريك تجاري لها منذ عقود قبل اندلاع شرارة الثورة بالبلدين في 2011 وذلك بفضل العلاقات الإستراتيجية والتاريخية المتجذرة. أنيس الجزيري: تدخل تركيا مكنها من إغراق السوق الليبية ببضائعها أنيس الجزيري: تدخل تركيا مكنها من إغراق السوق الليبية ببضائعها ويعيب هؤلاء على ارتباك الدبلوماسية السياسية والاقتصادية لتونس، والتي ستجعلها تُضيع الفرصة على نفسها من أجل تحقيق عوائد أكبر، فضلا عن تحريك عجلة عدة قطاعات ترى في السوق الليبية منفذا لها لتعزيز تجارتها. وتشير التقديرات إلى الانحسار الكبير في حجم السلع التونسية بالأسواق التجارية الليبية ولاسيما في المنطقة الغربية بواقع 70 في المئة عما كانت عليه في السابق، لتحل محلها البضائع التركية. ودخلت ليبيا، البلد العضو في منظمة أوبك، منذ ثورة فبراير 2011 التي أطاحت بنظام معمر القذافي، في متاهة من المشكلات المزمنة وخاصة على المستوى الاقتصادي وانهارت معه قيمة العملة المحلية وتبخرت الاحتياطات من العملة الصعبة المتأتية من عائدات تصدير النفط، التي كانت ولا تزال الشريان الوحيد للاقتصاد. وتسببت الأوضاع الأمنية غير المستقرة في اضمحلال مقومات الاستثمار بفعل انعدام الأمن ومناخ الأعمال الملائم إلى جانب التجاذبات السياسية بين حكومتين في الشرق وأخرى في الغرب، علاوة على التدخل الأجنبي، الذي زاد الأوضاع سوءا. وقال أمين عام مجلس الأعمال التونسي الأفريقي أنيس الجزيري في تصريح خاص لـ”لعرب” إن “الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي وتداعيات فايروس كورونا في ليبيا أثرت بوجه الخصوص على مصالح تونس”. وتراجعت المبادلات التجارية بين تونس وليبيا من قرابة ثلاثة مليارات دولار في عام 2010 إلى 600 مليون دولار بنهاية العام الماضي، كما تراجع عدد العمالة التونسية في ليبيا من 150 ألفا إلى بعض الآلاف فقط، ما من شأنه زيادة معضلة البطالة. واعتبر الجزيري أن التدخل الأجنبي في ليبيا مكّن الأطراف المتدخلة من موطئ قدم في السوق الليبية، وهو ما يمكن ملاحظته من إغراق السوق بالسلع التركية خصوصا في المنطقة الغربية، حيث حلت مكان السلع التونسية، التي كانت إلى وقت قريب هي المهيمنة على السوق الليبية. وأشار إلى أن هناك شبكات تهريب تعمل على إدخال السلع التركية إلى تونس وغيرها من البضائع بطرق غير قانونية، ما يدعم السوق الموازية ويضرب الصناعة المحلية. ولا تغزو السلع التركية وحدها أسواق ليبيا حيث تتواجد بكثافة السلع الصينية، غير أن المنتجات التركية حلت بالأساس مكان المنتجات التونسية خصوصا المواد الغذائية والألبسة والصناعات التحويلية. وزاد غلق الحدود بين البلدين في أعقاب إجراءات مشددة لمكافحة كورونا من أزمة التصدير نحو ليبيا، إضافة إلى عدم انتظام الخط البحري التجاري بين محافظة صفاقس جنوب شرق البلاد والعاصمة الليبية طرابلس جراء الكلفة المالية وقصف الطيران الحربي. 70 في المئة نسبة السلع التركية التي عوضت المنتجات التونسية في السوق الليبية ودعا أمين عام مجلس الأعمال التونسي الأفريقي السلطات التونسية إلى تحديد موقف واضح تجاه ليبيا والبحث عن مصلحة تونس من خلال دبلوماسية نشيطة. ولم يخف الجزيري مخاوفه من صراع النفوذ في ليبيا، حيث أقر بوجود حرب مصالح، محذرا من الانقسامات وانعكاسات ذلك على الاقتصاد التونسي. وتنتظر أوساط الأعمال التونسية على مضض المصادقة على مشروع قانون اتفاقية التجارة الأفريقية الحرة، الذي تم إسقاطه في البرلمان لعدم توفر العدد الكافي من الأصوات ما أثار موجة استياء عارمة وصف فيها حينها مجلس الأعمال التونسي الأفريقي الخطوة بـ”جريمة في حق الشعب التونسي”. ومن المرتقب أن يعيد مجلس نواب الشعب التونسي (البرلمان) النظر في المشروع خلال يونيو الحالي بعد انقضاء مدة الثلاث أشهر لإعادة مناقشة أي قانون تم إسقاطه وفق ما ينص عليه الدستور والقوانين الجاري بها العمل. وفي هذا السياق طالب الجزيري البرلمان إلى إعادة النظر في الاتفاقية في أقرب الآجال، وعبر عن أمله في أن تحظى هذه المرة بمصادقة النواب، لافتا إلى أن أغلب الكتل النيابية عبرت على موافقتها الاتفاقية لأهميتها بالنسبة للاقتصاد التونسي. وتهدف الاتفاقية إلى تنويع المبادلات التجارية الأفريقية وتحقيق زيادة في حجم التجارة البينية بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2022 وذلك عبر زيادة مستويات التنسيق في تحرير المبادلات التجارية ووضع آليات التطبيق والتسيير. مصطفى عبدالكبير: تونس تدفع ثمن فشل دبلوماسيتها الاقتصادية في ليبيا مصطفى عبدالكبير: تونس تدفع ثمن فشل دبلوماسيتها الاقتصادية في ليبيا ويجمع خبراء على أن تونس فقدت دورها في الملف الليبي على مستويات عدة وخصوصا الاقتصادي، وهو ما تطرق إليه الجزيري بقوله “نحتاج إلى دبلوماسية نشيطة في الملف الليبي وأكثر جرأة وشجاعة في الدفاع عن مصالحنا”. وبيّن أنه من الضروري “العمل على تأمين مرور البضائع برا إلى ليبيا وتكثيف الخطوط البحرية بين البلدين من مختلف موانئ ودعم الشركات المصدرة في تأمين بضائعها ماليا”. وتتميز ليبيا بموقع استراتيجي مهم وسط شمال القارة الأفريقية وهي دولة غنية بالنفط وتزخر بموارد طبيعية أخرى مثل الغاز والمياه والمعادن ما يخوّل لها أن تكون قطبا اقتصاديا كبيرا لولا ويلات الحروب. وقال الحقوقي والمختص في الشأن الليبي مصطفى عبدالكبير في تصريح خاص لـ”لعرب” إن “غزو السلع التركية والصينية للأسواق الليبية غذته عوامل كثيرة منها فارق الكلفة وإصرار عدد من التجار الليبيين والأفارقة والأوروبيين والآسيويين على استغلال علاقتهم بالميليشيات لفرض سلعهم، التي عادة ما تكون غير خاضعة حتى لشهادة الصحة والسلامة”. وأكد عبدالكبير أن تونس تدفع ثمن فشلها في الملف الليبي، إذ أن ضعف الدبلوماسية التونسية في ليبيا وخاصة الاقتصادية تسبب في إفلاس عديد الشركات الصناعية التونسية إضافة إلى انهيار قيمة الدينار. ولفت إلى أن تونس لم تعد قادرة على المنافسة بسبب الوضع الأمني وسيطرة القوى الأجنبية والميليشيات على السوق الليبية مقابل محدودية الخيارات السياسية التونسية والتجاذبات وعدم الانسجام السياسي إضافة إلى غياب خطة إستراتيجية واضحة في التعامل مع تداعيات الملف اللبيي على الاقتصاد التونسي. وأشار الخبير المختص في الشأن الليبي إلى أن خط الربط الكهربائي بين تونس وليبيا لا يغطي إلاّ بعض المدن والقرى الحدودية فقط إضافة إلى وجود عدة صعوبات خاصة في مسألة سداد الديون والصيانة جراء الحرب. وأغلقت منذ العام 2012 أكثر من 200 شركة صناعية متوسطة والعديد من الشركات الصغيرة، التي كانت تصدر منتجاتها بنسبة عالية نحو ليبيا ما تسبب في فقدان الآلاف من الوظائف.
مشاركة :