يخيّم الترقب على الأوساط السياسية في تونس في ظل دعوات لإسقاط حكومة إلياس الفخفاخ بسبب شكوك في ارتباطه بقضية تضارب مصالح، حيث يطالب ائتلاف الكرامة الشعبوي والإسلامي (19 نائبا) وحزب قلب تونس (ليبرالي، 27 نائبا) بالإطاحة بهذه الحكومة بعد جلسة مساءلتها الساخنة أمام البرلمان. ولا يستبعد المراقبون أن تكون حركة النهضة الإسلامية وراء الكشف عن هذه القضية في محاولة لتخفيف الضغط الذي كان مسلطا على زعيمها الذي يرأس البرلمان، وتوجيه كل الأنظار صوب رئيس الحكومة ومواجهته للمعارضة من خلال تحريك أذرعها لتولي ذلك. وأظهرت مواقف حزب قلب تونس من حكومة الفخفاخ تباينا، وحتى تقلبا، يبرز ارتهانه لمواقف حركة النهضة التي هاجمت الفخفاخ من خلال ذراعها ائتلاف الكرامة ثم اختارت التهدئة معه إلى حين. هذا النهج الذي توخته حركة النهضة كان يرمي بالأساس إلى “ابتزاز” الفخفاخ وإظهاره في موقع ضعف لفرض إملاءاتها، حيث تدفعه نحو توسيع الحزام السياسي لحكومته من خلال إدخال قلب تونس وائتلاف الكرامة في محاولة تستهدف الحفاظ على رئاسة زعيمها راشد الغنوشي للبرلمان ووقف محاولات سحب الثقة منه. وباتت هذه الرئاسة مهددة أكثر من أي وقت مضى منذ جلسة 3 يونيو المشهودة، التي أسقط فيها البرلمان التونسي لائحة تدين التدخل الأجنبي في ليبيا لكنه أظهر اصطفاف بعض الكتل المدنية على غرار حركة الشعب (قومية) خلف اللائحة التي قدمها حزب الدستوري الحر. منذ ذلك التاريخ، أصبحت حركة النهضة تبحث عن دعم داخل البرلمان من بوابة توسيع الحزام الحكومي وإشراك قلب تونس وائتلاف الكرامة. ولأنه “في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة” كما يقول ونستون تشرشل، فإن مواقف قلب تونس وائتلاف الكرامة كانت تحت الطلب حسب ما تقتضيه مصلحة النهضة. وحزب قلب تونس، الذي يتزعمه قطب الإعلام ورجل الأعمال نبيل القروي، كان لا يمانع دخول الحكومة، لكن بعد الجلسة الأخيرة باتت جل تصريحات قياداته تصب في إطار البقاء في المعارضة بحجة أن حكومة الفخفاخ متورطة في قضايا فساد وهو ما يؤشر على حدوث تفاهمات بين الفخفاخ والنهضة لإرجاء توسيع الحزام السياسي للحكومة إلى حين. وحسابات قلب تونس لا تتطابق بالضرورة مع النهضة، لكن ذلك لا يقف حاجزا أمام تحالفهما حيث يسعى الأول إلى دخول الحكومة وكذلك تصفية حسابات قديمة مع الفخفاخ الذي كان صارما منذ البداية برفض دخول حزب القروي الائتلاف الحكومي. في المقابل، هدف النهضة غير المعلن من تحركاتها ومواقفها يمكن تلخيصه في الحفاظ على رئاسة زعيمها للبرلمان وكسب المزيد من النفوذ داخل الحكومة، إضافة إلى منع حدوث تقارب في الرؤى والسياسات بين رئيسي الحكومة والجمهورية. هذه المعطيات جعلت حزب قلب تونس يصعّد مواقفه ضد حكومة الفخفاخ محدثا تقاربا فاجأ جل الأوساط السياسية والمعلقين مع ائتلاف الكرامة الذي كان بالأمس القريب عدوا لحزب القروي المدني، وهو ما جعل رئيسة الحزب الدستوري الحر تهاجم قلب تونس بطريقة عنيفة. وقالت عبير موسي، تعليقا على ندوة صحافية عقدها قلب تونس مع ائتلاف الكرامة ومغازلات نواب الطرفين لبعضهما البعض، “إن ما قام به قلب تونس يرقى إلى الخيانة العظمى، ونحن نسعى لتحرير الحكومة من سيطرة الإخوان”. وبعد تصعيد مع الفخفاخ، قرر قلب تونس رفض الانضمام إلى الحكومة مبررا ذلك بتورط رئيسها في قضية فساد. وقال القروي، الجمعة، إن “حكومة الفخفاخ جاءت بفكرة نظافة اليد وقامت ببعث وزارة كبيرة من أجل محاربة الفساد، إلا أنها تورطت في شبهات فساد”. وأضاف “حزبنا لن يقبل الدخول في حكومة أظهرت فشلها وفقدت مصداقيتها بعد شبهات الفساد التي تورط بها رئيسها”. وتأتي هذه التطورات لتكشف مخططات حركة النهضة لعزل الرئيس التونسي قيس سعيّد سياسيا واستمالة الفخفاخ إلى معسكرها من خلال ابتزازه بملفات فساد تجعله يرضخ لإملاءاتها، خاصة بعد أن بدا الأخير متعاليا خلال مواقفه الأخيرة، لاسيما في ما يخص دعوة راشد الغنوشي إلى إدخال قلب تونس. وفي حوار له مع إحدى القنوات الخاصة في 14 يونيو، قال الفخفاخ “أنا لست رهينة لأحد، الغنوشي هو رئيس النهضة فليفعل ما يشاء في حزبه”. وأضاف في رده على دعوات الغنوشي إدخال قلب تونس في الحكومة بتعلة أنه الحزب الثاني في الانتخابات البرلمانية “هذه بدعة”. ويبدو أن تحركات النهضة الأخيرة لا تستهدف الفخفاخ لوحده، حيث تواجه الحركة الإسلامية كذلك مواقف أكثر تشددا من الرئيس قيس سعيّد. ووصف الرئيس التونسي مؤخرا تهنئة راشد الغنوشي لفايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية باستعادة قاعدة الوطية العسكرية بـ”الخطأ”. كما تحدث سعيّد عن أطراف تتدخل في الشأن التونسي وتسعى للتأثير على مواقف بلاده. وأشار خلال زيارة له إلى باريس إلى أن شرعية حكومة الوفاق التي يتحالف معها الغنوشي وحزبه مؤقتة و”لا يجب أن تستمر”. بالإضافة إلى ذلك، يدعم الرئيس التونسي تغيير النظام السياسي ويجهز حاليا لتقديم مبادرات في هذا الصدد، وهو ما يزعج حركة النهضة التي استغلت تشتت الصلاحيات بين رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان لفرض أجنداتها. وتُعارض الحركة بشدة دعوات تغيير النظام السياسي في البلاد. في المحصلة، تُعد حركة النهضة ناجحة إلى حد خط هذه الكلمات في تكرار السيناريو الذي شهدته مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عندما تمسكت برئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد وجعلت منه ورقة بيدها. وكان قائد السبسي آنذاك يسعى إلى الإطاحة بالشاهد، غير أن النهضة ضمنت له البقاء من خلال معارضة إسقاط الحكومة والدفع نحو إرساء استقرار سياسي مستغلة في ذلك تفكك كتلة حزب نداء تونس (حزب الباجي قائد السبسي) وتأسيس كتلة تدين بالولاء للشاهد. وباتت حركة النهضة بهذه التحركات المهندس الفعلي للحكومات والخارطات السياسية في البلاد كذلك حيث أصبحت تتحكم علنا أو في الخفاء في مواقف الأحزاب السياسية المدنية أو الإسلامية منها لدخول الحكم أو الركون في المعارضة.
مشاركة :