السياسات الاقتصادية لمرحلة ما بعد جائحة كورونا (1)

  • 7/2/2020
  • 01:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لا ريب أن لكل مرحلة زمنية طالت أم قصرت ملامحها وأولوياتها التنموية، ومرحلة التعافي من جائحة كورونا التي ينبغي الاستعداد والتعامل المسبق لها ستكون مرحلة محملة بتبعات مالية واقتصادية ثقيلة جراء التضحيات الكبيرة التي تحملها الاقتصاد والمجتمع البحريني في مرحلة جائحة كورونا. وقبل الحديث في السياسات الاقتصادية التي تتطلبها هذه المرحلة لا بد من تأكيد حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن الله سبحانه وتعالى قد منح البلاد قيادة حكيمة تنظر بعيدا وبشمولية في مختلف القضايا والانشغالات الوطنية، وعلى رأسها جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى الذي أظهر منذ تسلمه مقاليد الحكم في البلاد حتى اليوم مقدرة عالية على قراءة المتغيرات والعوامل التي ستؤثر في صياغة بنية وعلاقات واحتياجات المجتمع في المستقبل. وقد جاء خطاب جلالته في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الخامس لمجلسي الشورى والنواب يوم الأحد الثالث عشر من أكتوبر2019 ليصوغ ملامح السياسات الاقتصادية لمرحلة التعافي من جائحة كورونا وكأنه يرى الجائحة وتداعياتها ومتطلبات مواجهتها، لذا نقول بكل مسؤولية إن عملية الإسراع في تنفيذ توجيهات جلالة الملك المفدى في هذا الخطاب هي القاعدة المثلى للسياسة الاقتصادية لمرحلة التعافي، وهي الصفـحة الأولى من صفحـاتها، والتي تسهم بشكل كبير في تحقيـق الأمن الاقتصادي والاجتماعي للبحرين شعبا ووطنا، وتأخذ به على طريق التنميـة الاقتصادية الحقيقية المستدامـة. وقد تناولنا هذا الخطاب المبارك بالتحليل المفصل في صحيفة «أخبار الخليج» بأربعة مقالات بعنوان: «ملامح من السياسات التنموية للمرحلة القادمة في خطاب جلالة الملك المفدى»، وذلك بدءا من 18 إلى 26 أكتوبر2019، وقد عبرت تلك التوجيهات عن مرئيات جلالته في التطور والنهضة ومواكبة واستباق المتغيرات الاقتصادية والتقنية المؤثرة في تشكيل المتطلبات التنموية للمرحلة القادمة، فضلا عن تأمل واستذكار وتحليل واستنباط الدروس والعبر التي تنضح من الواقع المعاش، وتأشير للمعالم الأبرز التي انبثقت من صيرورة التجربة الأروع التي وضع جلالته أطرها الرئيسية، وما فتئ في كل مناسبة وبطرق مختلفة يوجه الحكومة ورجالات المملكة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني بضرورة الالتزام بها والحرص على مواصلة تنفيذ حلقاتها المتعددة كل من موقعه، وبأقصى ما يمكنه من عزم واقتدار.وحينما نعيد قراءة توجيهات جلالة الملك المفدى في سياق تداعيات جائحة كورونا والتحولات الاقتصادية التي يشهدها العالم جراء هذه الجائحة نجد أنها ليست مواكبة تقليدية، بل سبقا في التخطيط التنموي الاستراتيجي، لذا ينبغي تنفيذها في سياق إنجازات تنموية متواصلة وليس إنجاز مشروعات منفصلة عن بعضها بعضا، واستجابة دقيقة لمتطلبات التنمية الوطنية المستدامة وبما ينسجم مع رؤية طموحة لمستقبل واعد يتناغم مع معطيات الثورة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية المعاصرة وصولا إلى بناء أنموذج لدولة ديناميكية متحفزة للأمام، قادرة على تحقيق الرفاهية المستدامة لشعبها عبر توليد مصادر دخل متنوعة ومستدامة ومتفاعلة مع المستجدات الإقليمية والدولية، بدلا من تلك الرفاهية التي سادت في العقود الماضية والمبنية على ريع النفط، الذي لم يصمد أمام الأزمات وآخرها جائحة كورونا، ومن دون أن تفقد خصوصيتها الوطنية وإرادتها الحرة المستقلة، الأمر الذي يتجلى في الخطاب السامي لجلالته عبر رسم جملة مهام تنموية في غاية الأهمية، تمثل بحق خريطة طريق ينبغي إنجازها في المرحلة القادمة بتعاون السلطتين التشريعية والتنفيذية والقطاع الخاص، خدمة للشعب وارتقاء بالوطن وضمانا للمستقبل، وان تنفيذها بالعمق الروحي والرؤية الشمولية التي يتطلع إليها قائد المسيرة جلالة الملك، وبإطار استراتيجي يوازن بين الإمكانات المتاحة والمتطلبات والطموحات ووفقا لبرنامج زمني يحدد الأولويات والمهام. وان في مقدمة مهام المرحلة القادمة التي أكدها جلالة الملك المفدى في خطابه بافتتاح المجلس الوطني «أن تباشر الحكومة بوضع خطة وطنية شاملة تؤمن لنا الاستعداد الكامل للتعامل مع متطلبات الاقتصاد الرقمي، بتبني وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في القطاعات الإنتاجية والخدمية، من خلال وضع الأنظمة اللازمة، واستكمال البنى التقنية، وتشجيع الاستثمارات النوعية، لضمان الاستفادة القصوى من مردود ذلك على اقتصادنا الوطني»، وذلك انطلاقا من إيمان جلالة الملك المفدى وإدراكه العميق لطبيعة التطورات العلمية والمعلوماتية المعاصرة وآثارها العميقة على الاقتصاد والمجتمع. وقد أثبتت تداعيات جائحة كورونا ان الاقتصاد الرقمي فارس الساحة الذي تحدى الجائحة، ولم يخضع لإملاءاتها، وانه لم يعد مجرد أساليب تقنية لتطوير الأداء، وليس خيارا تقنيا بين خيارات أخرى، تملك الدول وقطاعاتها الاقتصادية الحرية في اعتمادها من عدمه، إنما أصبح ضرورة لا مناص منها لاستمرار متطلبات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وانه في مرحلة ما بعد كورونا العنصر الأهم من عناصر البيئة التنافسية الإقليمية والعالمية التي تواجهنا، وسيكون تحولا وجوبيا لا بد منه، يستوجب إعادة شاملة للهندسة الاقتصادية، وتحديثا جوهريا في النظم والسياسات الاقتصادية في مختلف دول العالم، وتغييرا شاملا في وسائلها وآلياتها عبر التحول إلى الأنظمة والمنصات الرقمية التكنولوجية لتطوير أعمالها لمواكبة العصر الجديد، عصر الثورة الصناعية الرابعة، فضلا عن إيجاد البيئة التشريعية والرقابية واللوجستية المناسبة له، فهو منعطف جديد لنظم الأعمال العامة والخاصة في العالم، يمتد بآثاره وعلاقاته الخلفية والأمامية إلى مختلف القطاعات الاقتصادية (الإنتاجية والخدمية) والثقافية والتعليمية.ومن حسن حظ البحرين، لا بل من حسن مرئيات قيادتها أنها كانت سباقة في بناء بيئة حاضنة بكل ما يتعلق بالذكاء الصناعي والتكنولوجيا المالية والابتكار، وتشجيع الشركات الناشئة وإيجاد البيئة التشريعية المناسبة، وجذب الشركات والاستثمارات الأجنبية في هذه القطاعات، وكانت أول دولة في المنطقة تسمح للمؤسسات المالية بأن تستخدم الحوسبة السحابية بشكل كامل، كما أنها أول دولة طبقت تكنولوجيا (بلوك تشين Blockchain أو سلسلة الكتل). وقد نجحت نجاحا كبيرا وسريعا في مجال تعزيز اعتماد القطاع المالي والمصرفي نظم وآليات التكنولوجيا المالية. واعتمد مصرف البحرين المركزي ما يسمى  (sandbox) ساند بوكس، وهو يعتبر الأول من نوعه في المنطقة لحث رواد الأعمال على المساهمة بتقديم الحلول المبتكرة للتكنولوجيا المالية. كما قام بإرساء قواعد البنية التنظيمية والتشريعية للتكنولوجيا المالية، وإطلاق وحدة خاصة بالتكنولوجيا المالية، وبيئة تجريبية رقابية لاختبار حلول التكنولوجيا المالية. وبتعاونه مع مجلس التنمية الاقتصادية تم تأسيس مركز الخليج للتكنولوجيا المالية عام 2018م، الذي يمثل أكبر مركز متخصص للتكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأسست مملكة البحرين أول مركز للتكنولوجيا المالية الإسلامية والتنمية المستدامة في عام 2018م. وغيرها من الإنجازات في مجال تحديث القطاع المالي والمصرفي الذي يعد ذراعا مهمة وأساسية لتحديث الاقتصاد الوطني برمته. وبعد أن وضعت الحكومة القاعدة الضرورية للنهضة التقنية، وأتاحت فرصا واسعة لقطاع الأعمال لاستيعابها واعتمادها من خلال ما وفرته خلال السنوات الماضية في مجالات التدريب والتأهيل والتحفيز وإعداد الدراسات العلمية والمهنية، وتنظيم المؤتمرات والورش والملتقيات العلمية العديدة، وطبقت معطياتها أثناء جائحة كورونا، فقد آن الأوان لوضع خطة وطنية شاملة، مقترنة بحزمة متكاملة من الإجراءات والتشريعات، وإعادة هيكلة وتوصيف القطاع الحكومي، لتحويل المشهد الاقتصادي والإداري البحريني برمته نحو الاقتصاد الرقمي واعتماد أحدث المنتجات والأساليب التقنية في مختلف أنشطته الإنتاجية والخدمية، وتكثيف استخدامها وجوبا، من خلال ربط الدعم والاحتضان الحكومي والتوظيف بالقدرة المتنامية على التعامل معها، وعُدّ معيار القدرة على الابتكار والإبداع في الأداء والتطوير المتواصل، وتحقيق قيمة مضافة متنامية عبر اعتماد الرقمنة ومنتجات الثورة الصناعية الرابعة الأخرى، واحدا من المعايير الأساسية للولاء الوطني القائم على الإنتاجية، وإدخال إصلاحات جذرية في برامج التعليم، وتطوير المناهج في المدارس والجامعات ومختلف المؤسسات التعليمية، والتوسع في التخصصات الجامعية الموائمة لهذه التوجهات، والحرص كل الحرص على توطين منصات ومعامل وشبكات وتقنيات الاقتصاد الرقمي داخل البلاد وليس استيراد خدماتها عبر الشبكات الدولية، والاستفادة من تجارب الدول والشركات ذات القدم الراسخة في هذا المجال، وبما يسهم في دعم سياسات تنويع الاقتصاد، وتحفيز القطاع الخاص، واستقطاب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص.‭{‬ أكاديمي وخبير اقتصادي

مشاركة :