السياسات الاقتصادية لمرحلة ما بعد جائحة كورونا (2)

  • 7/6/2020
  • 01:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

تشير دروس التاريخ بشقيه القديم والحديث إلى أن أهم صفة للقادة الاستراتيجيين أنهم لا يحصرون مرئياتهم في الواقع المعاش, بل يتطلعون للمستقبل, ويعيدون تشكيله وصياغته وهو الهدف الأهم في استراتيجيتهم للبناء والنهوض, وحيث إن المستقبل لم يحدث بعد, فإن التطلع إليه يتطلب توقع الأزمات والأحداث السلبية والايجابية التي يمكن أن تحصل, ووضع سيناريوهات للحلول والمعالجة, والتعامل الأمثل مع مختلف متغيراتها بدءا من الحاضر. وهذا ما نتلمسه تماما في خطاب جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الخامس لمجلسي الشورى والنواب يوم الأحد/ الثالث عشر من أكتوبر/2019, حيث رسم ملامح المستقبل, ووضع خريطة طريق للتعامل المسبق مع مستجداته, وها هي أزمة جائحة كورونا (كوفيد19) جاءت لتثبت صحة القراءة الاستراتيجية لجلالته, والمنهج الذي اعتمده في تحليله الموضوعي لمتطلباته, والخطط الاستباقية التي وجه باعتمادها للتصدي لأزماته المتوقعة, بحيث كان سباقا لدعوات جميع المنظمات الإقليمية والعالمية لحكومات دول العالم للقيام «باستجابة طارئة وسريعة من أجل حماية شعوبها من براثن الفقر وانعدام الأمن الغذائي نتيجة لتداعيات وباء كورونا», فقد وجه جلالته في خطابه السامي قبل ظهور جائحة كورونا الحكومة للتصدي وبحزم لفجوة الأمن الغذائي, بالقول «بالنظر إلى الجهود العالمية المتواصلة في إيجاد حلول ترتقي بجودة حياة الإنسان واستمرار تمتعه بالعيش الكريم، وخصوصا في مجال تحقيق الأمن الغذائي، تبادر البحرين، بكل جدية، بتبني الحلول المناسبة لتطوير مجالات الاكتفاء الذاتي، حيث أصدرنا توجيهاتنا، بوضع وتنفيذ «مشروع استراتيجي للإنتاج الوطني للغذاء»، ليشمل تخصيص مواقع متعددة للاستزراع السمكي والإنتاج النباتي. ويهدف المشروع بشكل رئيسي، إلى تطوير القدرات الوطنية في مجال الصناعات الغذائية ورفع نسبة الإنتاج المحلي، والحفاظ على خبرة أصحاب تلك المهن ليكونوا جزءا هاما في إنجاح تلك المشاريع». لقد وضع جلالة الملك المفدى يده على أهم ثغرة في الأمن الاقتصادي للمملكة, وان معالجتها تعد أعظم إنجاز يمكن أن تحققه البحرين في المرحلة الراهنة ومرحلة التعافي من كورونا, لاسيما أن دول مجلس التعاون الخليجي عموما تعاني من أزمة غذاء مستديمة, من ابرز مظاهرها الاعتماد شبه الكلي في توفير السلع الاستراتيجية مثل الحبوب والزيوت والسكر واللحوم وغيرها على الاستيراد من الخارج, وكانت ولم تزل عرضة للارتفاع الحاد في تكاليف الإنتاج مما يقود إلى الارتفاع في أسعار السلع, الأمر الذي يدفع الحكومات إلى دعم فاتورة الغذاء وتحميل ميزانياتها العامة أعباء إضافية تتصاعد مع زيادة عدد السكان, ومملكة البحرين بحكم المحددات الجغرافية والطبيعية والاقتصادية والبشرية التي حدت من الرقعة الزراعية فيها, وجعلتها تعتمد بشكل يكاد يكون كليا على السلع والمنتجات الزراعية والحيوانية المستوردة, هي الأكثر اختلالا في أمنها الغذائي, على الرغم من توجه حكومة البحرين نحو البلدان الآسيوية ليس لاستيراد المزيد من تلك المنتجات وتأمين إمدادات متواصلة فحسب بل للبحث عن حلول متوسطة وبعيدة المدى تحقق الأمن الغذائي لمواطنيها, فقد طلبت تملك مساحات واسعة من الأراضي في جمهورية الفلبين من أجل زراعة الأرز, كما وقعت اتفاقيات تعاون مع السودان وحصلت على أراض واسعة لغرض الاستثمار الزراعي. فضلا عن المبادرة الوطنية الرائدة (المبادرة الوطنية لتنمية القطاع الزراعي) التي قادتها صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة قرينة صاحب الجلالة الملك المفدى، رئيسة المجلس الأعلى للمرأة, والتي كان لها دور كبير في الحفاظ على القطاع الزراعي الذي كاد أن يندثر بفعل عوامل عديدة, وحيث إن تداعيات جائحة كورونا أثبتت بما لا يقبل الشك أن الدول في ظل الأزمات لا تفكر بالتصدير ولا تنشغل بإعانة الدول الأخرى, أو في إنفاذ تعاقداتها معها, إنما توجه كل إمكاناتها لتوفير متطلبات الحياة لشعبها, الأمر الذي يتطلب من الحكومة والقطاع الخاص الإسراع في توسيع قاعدة المشروعات التي تضمنتها توجيهات جلالة الملك المفدى في هذا القطاع الهام, والتعاون في مجال البحث عن أفضل المشروعات التي يمكن أن تحقق توجيهات جلالته في إنفاذ المشروع الاستراتيجي للإنتاج الوطني للغذاء, ونشير هنا إلى عدد من التدابير التي يمكن أن تسهم في ذلك منها: ضرورة تحسين كفاءة الإنتاج الزراعي عبر البحوث والدراسات الميدانية للتربة والمياه, ونقترح إنشاء مركز علمي متخصص بالدراسات الاقتصادية والبيئية, ليقوم بهذه المهمة إلى جانب مهام أخرى تتعلق بسبل تعزيز الأمن الغذائي في ضوء معطيات بيئة مملكة البحرين, كما ندعو إلى ضرورة ترشيد استخدام المياه ووقف الهدر بالموارد المائية في القطاعات ذات القيمة المضافة المنخفضة، مع التأكيد على أهمية الحد من زحف التنمية العقارية على الأراضي الزراعية, وتعديل أنماط الاستهلاك, تشجيع الزراعة المنزلية في الحدائق وأسطح المنازل والبنايات والشرفات, وتشجيع زراعة النخيل والأشجار المثمرة في البيوت والحدائق العامة والجزرات الوسطية للشوارع, وتشجيع تربية الطيور والماشية والأبقار في المزارع, والتوسع في إنشاء أحواض الأسماك على امتدادات السواحل البحرية, فضلا عن دعم إنشاء شركات للصيد والتصنيع السمكي في أعالي البحار, واعتماد الحلول التكنولوجية المعاصرة في الزراعة وتوفير المياه مثل الزراعة المائية، التي يمكن أن تقلل من استخدام المياه بنسبة (40-60%), واعتماد تكنولوجيا تسييل بخار الماء من رطوبة الجو, وحيث إن العلاقات البحرينية مع المملكة العربية السعودية علاقات متفردة ومتميزة وضاربة جذورها في عمق التاريخ, تتداخل فيها الروابط الاجتماعية القبلية والأسرية, وتتداخل فيها المصالح الاقتصادية والتفاهمات والرؤى السياسية, وتزيدها التحديات الاستراتيجية, الإقليمية والدولية تأصلا وتشابكا وتناميا. ويمنحها الجوار الجغرافي بيئة خصبة على الثبات والتجذر, حتى أنها أضحت نموذجا للسمو في العلاقات الثنائية بين دولتين, وعد التنسيق والتطابق في مواقفهما السياسية عبر التاريخ, وإزاء مختلف القضايا والانشغالات الوطنية والإقليمية والدولية انعكاسا صادقا لذلك المستوى المزدهر من التكامل والتوحد, وبما ينعكس إيجاباً على شعبيهما الشقيقين وشعوب دول الجزيرة والخليج العربي, فقد آن الأوان لتشابك وتكامل اقتصادي حقيقي ليس على مستوى الاقتصاد الكلي فحسب, بل بدءا من المشروعات الاقتصادية المشتركة بين القطاع الخاص البحريني والسعودي, وخاصة في مجالات الأمن الغذائي بأبعاده الأربعة الأكثر أهمية «الزراعة, الصيد, الرعي, الصناعات الغذائية» وبإشراف ومتابعة من مجلس التنسيق السعودي البحريني المشترك. إن النجاح في ذلك هو القاعدة الرصينة للأمن الاقتصادي للبحرين, بالإضافة إلى إقامة مناطق حرة زراعية وخاصة في البلدان التي تسمح قوانين الاستثمار فيها بهذا النمط من الاستثمار الأجنبي, وبما يساعد على إقامة مشروعات زراعية بحرينية كبيرة في الخارج, تسهم في تأمين قسم من احتياجات المملكة من المنتجات الزراعية والحيوانية. وتبقى الإشارة إلى ضرورة توجيه القطاع المالي والمصرفي في توفير التمويل اللازم للاستثمار في القطاع الزراعي بالمملكة بأقل ما يمكن من الفوائد والأرباح, ولأطول فترة ممكنة وبضمانات الحكومة وليس المستثمر, على أن يكون ذلك للمواطنين حصرا. حفظ الله البحرين خليفية خليجية عربية مسلمة.

مشاركة :