السياسات الاقتصادية لمرحلة ما بعد جائحة كورونا (3)

  • 7/9/2020
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يتفق العالم اجمع على ان مرحلة ما بعد كورونا تختلف عن المرحلة السابقة لها، فقد اعطت الجائحة دروسا غاية في الاهمية لصناع السياسات تعينهم على اكتشاف خارطة طريق جديدة لتحقيق الامن الانساني بكل ابعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واثبتت ان التنوع في الموارد وفي توطين الاستثمار الحقيقي قوة، وهو قوة اكبر حينما يتم اختيار القطاعات المراد الاستثمار فيها من تلكم التي تتميز بالقدرة على التجدد والنمو، وفي نفس الوقت تتوافر لها القاعدة المادية والبشرية المناسبة، ومتجذرة في ارتباطها بالسوق والبيئة المعاشة، الامر الذي يتيح مرونة اكبر للتعامل مع المتغيرات والازمات التي قد تواجه المجتمع، وتصيب أيا من قطاعاته، ويمنح الدولة والمجتمع قدرة اكبر للمناورة وتحجيم وتدنية أضرارها، والحفاظ على مسيرة الاقتصاد واتجاهات نموه مستقرة ان لم تكن متصاعدة، ولاحظنا كيف ان الاقتصادات الريعية النفطية التي لم تستثمر هذه الثروة بشكل ذكي، اهتزت اركانها بعد تدهور اسعار النفط بسبب تراجع الطلب بفعل تداعيات جائحة كورونا، بينما كانت الدول متنوعة الموارد اكثر استقرارا حتى وان كان النفط احد المكونات المهمة في هيكلها الاقتصادي، على الرغم من سخاء انفاقها على متطلبات مواجهة الجائحة وتداعياتها. وحينما ننظر إلى ذلك من زاوية الاقتصاد البحريني ومرئيات قيادة البلاد الحكيمة لتنميته وتطويره ومنحه المرونة الكافية لمواجهة الازمات، نجد حزمة واسعة من المبادرات التي أكد عليها جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى في خطابه السامي في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الخامس لمجلسي الشورى والنواب يوم الاحد الثالث عشر من أكتوبر 2019, على مواصلة «توجيه عناية فائقة لقطاع النفط والغاز في ضوء الاكتشافات الكبيرة التي أعلنا عنها مؤخرا ووجهنا بتسريع خطى التطوير في مشاريعها»، إضافة إلى ما تم تدشينه من مجموعة حيوية واعدة من المشاريع التنموية الكبرى، مثل أكبر توسعة لمصفاة شركة بابكو، وتوسعة شركة بنغاز، وافتتاح مرفأ الغاز المسال، ومشروع خط الانتاج السادس بشركة ألبا، وتشغيل خط الأنابيب الجديد مع المملكة العربية السعودية، وتطوير قطاع النقل والمواصلات والاتصالات، عبر توسعة مطار البحرين الدولي، والبدء بتنفيذ جسر الملك حمد، وتطوير العديد من المشروعات اللوجستية، وانشاء وتطوير المزيد من الواجهات والمسطحات المائية، وتنويع وتكثيف المساحات الزراعية بما يقود إلى تحسين البيئة والتقليل من آثار التغيرات البيئية الضارة وتعزيز الامن الغذائي الذي تعرضنا له في مقال سابق. لقد حان الوقت لتسريع وتفعيل هذه المشروعات وجني ثمارها من جانب، ومن جانب اخر، نعتقد ان مرحلة ما بعد كورونا تتطلب تفعيل دور القطاع الخاص والقطاعات غير الربحية، ليس من خلال دعمها المالي واللوجستي للتوسع بالاستثمار فحسب، بل من خلال تأسيس شركات استثمارية مختلطة بين هذه القطاعات والقطاع العام، وطرح نسبة من اسهمها للاكتتاب الشعبي العام، واختيار مشروعات استثمارية ذات جدوى اقتصادية وبيئية عالية، مثل الاستثمار في قطاع الصناعات والخدمات البحرية، والاستثمار في القطاع السياحي، والاستثمار في التعليم العام والعالي، والاستثمار في القطاع الصحي، وغيرها من القطاعات التي يمكن ان تحقق عوائد مالية واجتماعية متواصلة، على ان تكون جزءا من منظومة السياسات الاقتصادية الجديدة التي تمثل جزءا اصيلا من استراتيجية المملكة في الرد الحضاري على تداعيات جائحة كورونا، ويؤدي استخدامها وتطبيقها إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية لرؤية البحرين الاقتصادية 2030 ووفق الأولويات المعتمدة اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا، وفي إطار الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة أو المخطط اتاحتها بأنواعها المتعددة (المادية والبشرية، المالية وغيرها) بحيث تحقق أعظم المنافع للمجتمع بأقل التضحيات على كل الاصعدة (الامن المعيشي، الرفاهية، الموارد، الأمن). سيما وان جميع تلكم المتغيرات الاقتصادية تشكل منظومة متكاملة للنشاط الاقتصادي في المجتمع، تسهم وبشكل فاعل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. هذه التوجهات للسياسة الاقتصادية الجديدة في مرحلة ما بعد كورونا، ينبغي ايضا ان تكون معززة لاستمرار وتنامي الخدمات المتكاملة التي تقدم للمواطنين، وداعمة للتوظيف الأمثل للموارد الوطنية، ومراعية لحقوق ومكتسبات المواطنين، ومحققة للتوازن فيما بين ذلك. فالسياسة الاقتصادية الجديدة التي نطمح ان نراها في البلاد في مرحلة ما بعد كورونا ينبغي ان تضع خارطة طريق جديدة تتعلق بالأوضاع المالية للبلاد وحالة الميزانية، اعتمادا على مواردنا الوطنية، وخاصة اننا نعتمد مرحليًا على الدعم المالي الخليجي في المرحلة الماضية في اطار برنامج التوازن المالي، وذلك خاضع لإطار زمني محدد من جانب، ومن جانب اخر ان الدول الشقيقة لديها التزاماتها التنموية ومحدداتها التمويلية، وظروفها الذاتية، مما يستلزم سياسة مالية ذكية تعتمد على الامكانات الوطنية، والتحول من نمط الوزارات التي تعتمد كليا على التمويل الحكومي إلى الوزارات الريادية المنتجة، وللموضوع بقية في مقالات قادمة ان شاء الله. واثبتت الجائحة ان الانفاق الترفي وبناء اضخم المجمعات الترفيهية والتجارية والعقارية، والانفاق العسكري الواسع وبناء الترسانات العسكرية المتطورة لن يصمدا امام تهديد الفيروسات والأوبئة. لذا فإن هيكلية الانفاق في مرحلة ما بعد كورونا ستتغير حتما لصالح الانفاق الصحي والبحوث العلمية التي تسعى إلى تطوير اللقاحات والأدوية ومعززات المناعة البشرية ضد الأمراض وغيرها، وسيرافق ذلك تغيير حتمي في التعليم لصالح التعليم الطبي والصحة العامة، والاصحاح البيئي ولمتخصصي التقنيات التي تخفض من الاداء البشري المباشر للأعمال التلامسية، والتوسع في الاعمال والانشطة اللا تلامسية في مختلف القطاعات، وستكون مخرجات التعليم متخصصين في مجالات البرمجة وتشغيل ومراقبة الريبوتات، ومحللي البيانات، ومهندسين للعمل في مراكز قيادة الطائرات المسيرة دون طيار، ومتخصصين في الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية، والعملات الرقمية، والبلوكتشين، والنانو تكنولوجي، والمنتجات ثلاثية الابعاد، وغيرها من التخصصات التي تلائم التقنيات التي تسود في المستقبل القريب، والتي بدأت بالزحف على المؤسسات قبل جائحة كورونا، الا انها سارعت الخطى في ظل الجائحة، ويتوقع انها ستهيمن على مشهد الاعمال في مرحلة ما بعد كورونا. ‭{‬ أكاديمي وخبير اقتصادي

مشاركة :