السياسات الاقتصادية لمرحلة ما بعد جائحة كورونا (4)

  • 7/13/2020
  • 01:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

شهدتْ مملكةُ البحرين منذُ ظهورِ بوادرِ لانتشارِ فيروس كورونا المستجد «كوفيد19» حراكًا رسميًّا ومؤسسيًّا وشعبيًّا مميزًا بتناسقه وجديته واستناده إلى بروتوكولاتٍ علميَّةٍ دقيقة، وبإشرافٍ ودعم ومتابعة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، وبقيادةٍ مباشرة لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء لفريق البحرين، واتُخذت سلسلةٌ من الإجراءاتِ والتدابيرِ المتميزة إقليميًّا وعالميًّا لتوفيرِ الوقايةِ والحمايةِ للمواطنين والمقيمين على أرضها، وعلاج ورعاية المصابين الموجودين داخل البلاد، وتقديم المساعدة المالية للعالقين خارج البلاد، ثم تأمين عودتهم، والتي نالت إعجاب منظمة الصحة العالمية وإقرارها بدقة وكفاءة إجراءات وسياسات المملكة للتعامل مع جائحة كورونا. وإذا كان ذلك يمثل الصفحة الأولى من مواجهة الجائحة، فإن قيادةَ البلاد نجحت في تأمينِ الصفحاتِ الأخرى التي لا تقل عنها أهمية، وهي الصفحةُ الماليَّةُ والصفحة الاقتصاديَّةُ والصفحة الإعلامية والصفحة الاجتماعية، ففي الصفحة المالية والاقتصادية موضوع مقالنا، أطلقت المملكةُ حزمةً ماليَّةً واقتصاديَّةً سخيَّة فاقت نسبة «30%» من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، ووفرت الدعم لمختلف القطاعات، على الرغم من التحديات المزدوجة التي واجهتها البلاد، فقد هبط سعر النفط إلى نحو «30» دولارا للبرميل، إلى جانب تراجع وتضرر أغلب الأنشطة الاقتصادية والخدمية، وحيث إن مرحلة التعافي من جائحة كورونا تتطلب سياسات اقتصادية تهدف إلى تحقيق الأمن الاقتصادي للبلاد ولا سيما الأمن الغذائي إلى جنب الأمن الصحي والأمن الاجتماعي، والاستمرار في تنفيذ التزامات الحكومة في الملف الإسكاني، ومواجهة الركود الاقتصادي عبر تحريك جانبي السوق: جانب العرض من خلال تحفيز ودعم قطاع الأعمال للمزيد من الاستثمار والإنتاج في المجالات المختلفة وخاصة ذات العلاقة بالأمن الاقتصادي والتي تناولناها بالتحليل في مقالات سابقة، وبما ينسجم مع المستجدات التي تتطلبها مرحلة ما بعد كورونا، وتحفيز رواد الأعمال والمبدعين على الاستثمار في مجالات غير مسبوقة. وأما من جانب الطلب فينبغي أن تسعى الحكومة إلى دعم القدرة الشرائية للمواطنين، بالإضافة إلى قصر المشتريات الحكومية من السلع والخدمات على السوق والمنتجات الوطنية، فضلا عن تشجيع قطاع الأعمال لتصدير المنتجات الفائضة عن السوق المحلية ما يتطلب تعزيز قدراتها التنافسية، وهذه السياسات تتطلب المزيد من الإنفاق الحكومي، وتوجيه البنوك الوطنية إلى خفض أسعار الفائدة وتسهيل عمليات الإقراض والتمويل بأقل قدر من الشروط والضمانات. وإذ إن الميزانية العامة تعاني أصلا من العجز المالي، وأن بلادنا تعتمد بشكل واسع على الدعم المالي الخليجي في المرحلة الماضية في إطار برنامج التوازن المالي، الذي يخضع لإطار زمني محدد من جانب، ومن جانب آخر فإن الدول الشقيقة لديها التزاماتها التنموية ومحدداتها التمويلية، وظروفها الذاتية، وأنها تأثرت كثيرا بتداعيات جائحة كورونا، علاوة على الآثار السلبية للتمويل بالعجز والاقتراض ولا سيما الاقتراض الخارجي، ما يستلزم سياسة مالية ذكية تعتمد على الإمكانات الوطنية، عمادها الشراكة الفاعلة بين قطاع الأعمال الخاص والقطاع الحكومي والقطاع غير الربحي والمواطنين، مقترنة بوقفة تقويمية لمجمل النشاطات التنموية وقرارات الإصلاح الاقتصادي التي تم اعتمادها في السنوات الخمس الماضية على وجه التحديد لتطوير ما حقق الجدوى الاقتصادية والمالية والاجتماعية من توطينه ودعمه. ومراجعة ما لم يتمكن من تحقيق قيمة مضافة حقيقية تدعم الاقتصاد وتسهم في توفير وفورات مالية واقتصادية ملموسة للحكومة والمجتمع، وتطوير الموارد البشرية الوطنية، وتقليص نسب البطالة وإصلاح سوق العمل، وإحلال أكبر ما يمكن من العمالة المواطنة محل العمالة الوافدة وفي مختلف القطاعات، والحد من التسرب المالي غير المنتج وتوجيه الموارد المالية المتاحة نحو الاحتياجات غير القابلة للتأجيل. وينبغي التنويه إلى ضرورة الحذر من التعامل مع وصفات صندوق النقد الدولي التي تقوم على سياسات إنفاق حكومي انكماشية، وسياسات ضريبية توسعية، ففي ظروف جائحة كورونا وما بعدها يصعب ضغط النفقات العامة في أغلب القطاعات الحيوية كالقطاع الأمني والقطاع العسكري والقطاع الصحي والقطاع التعليمي وقطاع الإسكان، علاوة على أن مواجهة الركود الاقتصادي تتطلب المزيد من الإنفاق العام. كما يصعب التوسع الضريبي، فلم يعد بإمكان المواطنين وقطاع الأعمال الصغير والمتوسط تحمل أي أعباء ضريبية، سواء على هيئة ضرائب مباشرة، أو على هيئة رسوم، بل إن الجميع يتطلع إلى تحويل تجميد الرسوم الحالية إلى إلغاء لها لآثارها السلبية على النشاط الاقتصادي. كما ينبغي العمل على اجتثاث مختلف أنماط الفساد الإداري والمالي وتدعيم مبادئ التحرر الاقتصادي والشفافية، ودعم واحتضان قطاع الخدمات المالية والمصرفية المعاصرة ولا سيما التكنولوجيا المالية التي أثبتت نجاحا كبيرا خلال جائحة كورونا، مع اعتماد رقابة فعالة على نشاطات ومصادر تمويله وفقا لأفضل المعايير الدولية المعتمدة، وتحفيز دوره الاستثماري ولا سيما قطاعي المصارف الإسلامية، والتكنولوجيا المالية الإسلامية إذ ينبغي استمرار الحرص على أن تكون المملكة المركز الإقليمي والدولي الرائد فيهما. مع ضرورة إيجاد معالجات اقتصادية فاعلة لظاهرة التسرب المالي المتواصل في البلاد، والمتمثلة بعدم تدوير الجزء الأعظم من إيرادات القطاع الخاص المتحققة من مشروعاته المدعومة حكوميًّا، داخل البلاد، ضمن عجلة الاقتصاد الوطني، إذ إن جل الإيرادات التي يحصل عليها إما أن تذهب على شكل ودائع مجمدة لدى البنوك أو استثمارات خارج البلاد. ويستوي في ذلك المستثمر الأجنبي وعدد غير قليل من المستثمرين المواطنين. كما أن جزءا كبيرا من إنفاق القطاع الخاص التشغيلي يذهب على شكل رواتب وأجور للعمالة الأجنبية التي تقوم بتحويل الجزء الأعظم منها إلى بلدانها في الخارج. لذا لا بد من أن تشهد مرحلة ما بعد كورونا سياسة اقتصادية جديدة مستوعبة لمتطلبات المرحلة القادمة، ومتجاوزة لمجمل التحديات الاقتصادية التي تعرضت لها المملكة في مرحلتي جائحة كورونا وما قبلها، وبما يقود إلى التعجيل بتوفير متطلبات التنمية الاقتصادية المستدامة في المملكة.‭{‬ أكاديمي وخبير اقتصادي

مشاركة :