علي الصراف يكتب: أبجدية الصمت

  • 7/20/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يحتاج المسؤولون الفلسطينيون أن يطوروا لغة أخرى. إذ يستطيع المرء بسهولة أن يرى أن هناك شرطيا إسرائيليا يقف على أفواههم. لذلك فإنهم يتحدثون بلطف، ويستخدمون لغة مخملية يراعون فيها قائمة اعتبارات، لكي لا تثير الحساسية في إسرائيل. هناك رقابة أشد، بطبيعة الحال، تجعل اجتماعاتهم غير مأمونة العواقب. ولعل هناك قناعات بأن أعلى الاجتماعات وأكثرها خصوصية، مخترقة أمنيا. وهذا وضع ضار، ليس لأنه حصار مضاعف فحسب، بل لأنه يجعل خياراتهم شديدة الحذر أيضا، حتى أنهم لا يستطيعون التفكير بحرية، ولا بحث الخيارات والبدائل على نحو يجعلها تبادلا حقيقيا للأفكار. وككل قمع، فإنه يمكن أن يكون ضارًا بإسرائيل نفسها. صحيح أنها عندما تتجسس على كل شيء يقوله أو يفكر فيه المسؤولون الفلسطينيون، وتعرف خياراتهم حتى من قبل أن تتحول الى سياسة، إلا أن ذلك يقدم لها انطباعا خاطئا باستمرار عن تلك الخيارات. ذلك أن لغة الحذر والخوف، ليست صادقة، ولا قيمة حقيقية لها من الأساس. طبعا، لا حاجة لاختراع لغة جديدة. ولكن المسؤولين الفلسطينيين، وهم ينظرون الى الشرطي الذي يقف على الفم، يستطيعون الاستعانة بلغة الإشارات والألغاز. بل أن لغة العيون وحدها يمكن أن توفر بديلا فعليا عن كل كلام يتم تسجيله ونقله الى إسرائيل. سوف تحتاج المخابرات الإسرائيلية أن تنصب كاميرات لتقرأ لغة العيون تلك، إذا ما قالت ما لا يقوله اللسان. وهذا وضع يزيد الصعوبة عليها، ويتطلب محللين إضافيين. لغة العيون تغني عن الكثير من الوثائق أيضا. كما أنها تقبل تفسيرات متضاربة تضع “ناقلها” في “حيص بيص” حقيقي. ولو قلنا، على سبيل المثال، أن تنظيم انتفاضة جديدة، هو واحد من أكثر الممنوعات التي تراقبها إسرائيل. وهي لن تتردد في جعلها سببا لإدانة أو حتى قتل أي مسؤول فلسطيني يتبناها، فذلك يفترض ألا يكون قيدا فعليا، إذا ما توفرت لديه لغة أخرى. الانتفاضة يمكن أن تندلع بما توفره إسرائيل من أسباب كل يوم. وهذا يعني أنها ليست بالضرورة قرارا يتخذه مسؤول، أو يُحرّض عليه آخر. الانتفاضتان الفلسطينيتان السابقتان كانتا خيارا اختاره الشبان والأطفال. واتيح للقيادات الفلسطينية أن تستفيد منهما فقط، وأن تبني عليهما خياراتها التي انتهت الى اتفاقات أوسلو. لا يهم الآن، ما إذا كان كانت القيادات الفلسطينية استخرجت الفائدة الصح أو الخطأ من الانتفاضتين. فكل ما بقي، في واقع الحال، هو الخطأ فقط. الشيء الوحيد المفيد، ربما، هو أن انتفاضة ثالثة قد تندلع. وكل ما يتوجب على المسؤولين الفلسطينيين هو ألا يقولوا شيئا بشأنها. على الأقل لا يقولوا شيئا يوحي بأنهم يقفون ضدها أو أنهم لا يشجعون عليها. شيء من هذا القبيل سوف يكشف فورا عن اسم الشرطي الذي يقف على باب الفم. الصمت سيكون أكثر فائدة، بل وأكثر وطنية. وإذا أضطر الى الكلام، فإن المرء يستطيع أن يتصرف حيال القضايا التي تُطرح عليه كما لو أنه دبلوماسي سويسري يلتزم جانب الحياد. وسواء سخنت الأمور أم لم تسخن، فإن لغة العيون أو الألغاز قد تغني عن الكثير من المتاعب. إسرائيل إذ تخشى من انتفاضة ثالثة تؤدي الى انهيار صورتها المزيفة أمام العالم، فإنها لن تسمح لأي مسؤول فلسطيني أن يجد نفسه واقفا على رأسها، ولا أن يقول ما يوحي بأنه يدعمها. فالشرطي الذي يقف على فمه سوف يطلق النار فورا. هذا أمر واضح للفلسطينيين، وهم يغفرونه لمسؤوليهم. طبعا هناك مسؤولون آخرون يقولون أي شيء. وإسرائيل لا تحب شيئا أكثر من ذلك. وهي تستفيد منه باستمرار. هنا أيضا يمكن للغة العيون أن تثبت أنها مفيدة. ذلك أن لغة الويل والثبور وعظام الأمور التي تندلق من بعض الافواه، كعنتريات صاروخية فارغة، يمكن أن تتحول الى لغة صمت أكثر فاعلية في الواقع. على الأقل لأنها توحي أن الكلام الذي لا يُقال، مُفكّرٌ فيه ومتقن أكثر من لغة الشعارات الجوفاء. وهناك، في النهاية، أقوال تناظر أفعالا. والأفعال من دون أي أقوال، أنفع وأبقى. ولعلها هي اللغة الناقصة التي تتطلب صناعة أبجدية خاصة بها. ولو أمكن تطوير هذه الأبجدية، فإن الشرطي الواقف على الفم، سوف يستقيل، لأنه سوف يبدو عديم الفائدة، عندما لا يتوفر لديه ما ينقله. وفي المقابل، فإن أبجدية الصمت، سوف تغنى وتغنى، وتقول كل ما لم يكن بوسعنا أن نقوله. وبرغم أنها تركن الى ما تنطقه الأفعال، فإنها لا تقول شيئا يستدعي الخشية من ذلك الشرطي. ولسوف يستطيع المسؤول الفلسطيني أن يجني الفائدتين معا: أن يكون دبلوماسيا سويسريا يتحدث بلغة مخملية، وقائدا في الميدان يرسي على أرض الواقع ما يعتمل في صدور مواطنيه.

مشاركة :